بقي أبو قاسم متمسّكاً بأرضه، وحيداً مع زوجته وماشيته داخل مزارع شبعا طوال فترة الاحتلال. بعد التحرير سدّد العدو ضربة يصفها الرجل بأنها انتقامية قضت على معظم القطيع في مزرعته بسطرة، ما اضطرّه إلى المغادرة والعودة الى بلدته شبعا، آملاً بتعويضات ما زال ينتظرها حتى اليوم
عساف أبورحّال
في بلدته شبعا، يمضي أبو قاسم، محمد عبد الله زهرة (85 عاماً) اليوم، ما بقي من العمر في منزل متواضع يقع عند آخر «زاروب» قبل الساحة العامة للبلدة. هنا يعيش بهدوء مع زوجته الجديدة سعدى التي عقد قرانه عليها منذ خمس سنوات، بعدما أجبر على ترك مزرعته وتقاعد من العراك مع جنود الاحتلال. ينتظر الراعي الفرج من أحد بابين: إما انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا نهائياً، أو حصوله على تعويضات نفوق معظم ماشيته في مزرعة بسطرة بُعيد التحرير. يعيش أبو قاسم على أمل أن يطرق مجلس الجنوب بابه على حين غفلة، لينصفه. ولأن أحداً لا يطرق باب أحد «على حين غفلة»، وخصوصاً لدفع تعويضات، فإن أبا قاسم ما زال منتظراً: «أنا صاحب حق وعيب على الدولة أن تأكله عليّ». هكذا، يستذكر كيف فقد 200 رأس ماعز بـ«ضربة واحدة» سدّدها الاحتلال «فطارت تحويشة العمر رغم مقارعتي للاحتلال أكثر من 30 عاماً تمسّكت خلالها بأرضي وقطيعي»، يقول. أما الفرج الأول، أي انسحاب اسرائيل، فلا يمكن أن يطرق باب أحد، على حد تعبيره، «ما دام اللبنانيون لا يسدّدون ضربات يومية للاحتلال لإجباره على الانسحاب من مزارعنا».
يجلس الرجل على أريكة خشبية قديمة أمام منزله، يتصفّح عشرات الأوراق التي تحوي نصوصاً وعقود بيع وشراء لقطع أرض يملكها في منطقة المزارع المحتلة. يحتفظ بالأوراق في وعاء من «التنك» عمره من عمر أبي قاسم. يقول: «قبضتُ 10 ملايين ليرة فقط تعويضاً مبدئياً عما لحق بالقطيع والمزرعة، فيما تجاوزت خسائري 70 ألف دولار». يرفض الرجل حجة مجلس الجنوب «أنه يتعذر الوصول إلى مزرعة بسطرة للمعاينة بسبب سوء الأوضاع الأمنية». حجة واهية، برأيه، ولا سيما بعدما بات الجيش اللبناني منتشراًَ «يتفضّلوا يشرّفوا يكشفوا ويقدّروا الخسائر». الوضع لم يعد يحتمل، كما يقول، وخصوصاً «أنه ليس لديّ أي مردود مالي أو أراضٍ في محيط البلدة يمكنني استغلالها، فالأراضي التي أملكها محتلة، ولم أعد أقوى على رعي الماعز في هذه السن المتقدمة».
يتحسّر على أيام زمان رغم مرارة الاحتلال «فمزرعة بسطرة لا تزال ماثلة في ذاكرتي، ولا سيما أنّني أعدتُ بناءها بعدما دمرها الاحتلال في السبعينيات». يحنّ إلى السنديانات وتلك «السطيحة» الغربية المشرفة على سهل الحولة في فلسطين المحتلة. لم يذهب أبو قاسم إلى مزرعته منذ سنتين، لكنّه يسأل عنها المراسلين الصحافيين الذين يترددون الى هناك. ويوصي بضرورة تفقد المحلة وخصوصاً زريبة المواشي التي يحنّ إليها كثيراً. يختصر الرجل معاناته بالقول: «أمر الله اسرائيل دولة عدوة صادرت ماعزنا ودمرت ممتلكاتنا وهجّرتنا من المزارع، لكن شو قصة الدولة اللبنانية ومجلس الجنوب؟». يجيب هذه قصة كبيرة بدها مين يحلّها، إنتو الصحافيي اكتبوا كل شي بقولوا بلكي بيدفعوا لي مصرياتي».
أبو قاسم من مواليد بلدة شبعا عام 1925، عاش طفولته في مزرعة قفوة، إحدى مزارع شبعا المحتلة، وكان عوناً لوالديه في الأعمال الزراعية وتربية الماشية. تزوج في السابعة عشرة من عمره ليبدأ مرحلة جديدة في تكوين أسرة مستقلة، ولم يكن أمامه سوى تربية المواشي لأنه أتقنها.
يروي كيف أنّه «قبل عام 1967 كنت أرعى قطيعي داخل المزارع، وصولاً حتى وادي العسل وحدود بانياس وتل القاضي، وكانت بركة مرج المن القريبة من مجدل شمس في الجولان السوري المحتل منهلاً للمواشي يوم لم يكن هناك شريط شائك».
بعد دخول قوات الاحتلال مزرعة قفوة، أنذرت الأهالي بترك المزارع، فمنهم من فضّل المغادرة، فيما بقي البعض الآخر صامداً، كما فعل هو. لكن دورية معادية ألقت القبض على أبي قاسم واقتادته إلى أحد السجون في بلدة القنيطرة بعدما صادرت له عدداً من رؤوس الماشية. قضى الرجل ثلاثة أشهر في الاعتقال قبل أن يستدعى إلى محكمة «حسبة ياسين» داخل البلدة وحكم عليه بالسجن سنة واحدة بتهمة التجسس ودخول الأراضي التي تحتلها اسرائيل خلسة. ولم تمضِ أكثر من ستة أشهر حتى أفرج عنه بعد تدخل الصليب الأحمر الدولي الذي نقله الى معبر رأس الناقورة لتتسلمه الدولة اللبنانية، وتجري معه تحقيقاً استمر يومين، عاد بعدها الى مزرعة قفوة حيث كانت العائلة بانتظاره. بعد أيام قليلة، علمت قوات الاحتلال بالأمر فطلبت منه إخلاء المنزل قبل أن تدمره وتطرد أبا قاسم من مزرعة قفوة.

توفّيت زوجته السابقة في بسطرة ونُقلت على السلّم إلى حلتا

بقي أبو قاسم مسجوناً في إسرائيل سنة قبل أن يفرج عنه

يغادر الرجل المكان، حاملاً ما بقي له من أمتعة ليستقر في مزرعة بسطرة المجاورة. هناك، لم يسلم من ضربات قوات الاحتلال التي بقيت تراقبه وتلاحق تحركاته إلى أن ألقت القبض عليه مجدداً وساقته إلى أحد السجون في مدينة حيفا داخل فلسطين المحتلة، ثم نقلته إلى سجن آخر لم يعرف اسمه ولا مكانه، وكانت التهمة هذه المرة «التعاون مع المقاومة الفلسطينية». بقي أبو قاسم مسجوناً لمدة سنة قبل أن يعود عن طريق الناقورة إلى بسطرة حيث زوجته وأولاده.
أكمل الرجل بناء المنزل والزريبة بعدما صادرت قوات الاحتلال منه مبلغ 40 ليرة لبنانية كانت بحوزته قبل اعتقاله، كان قد استدانها من عبد العال عبد العال، أحد أصدقائه، من مزرعة حلتا.
ويروي أن أحد مسؤولي جيش الاحتلال يدعى عكاشة حاول طرده وعرض عليه مبلغاً من المال لقاء مغادرته بسطرة، فقال له أبو قاسم: «كل سنديانة هنا بتساوي مال أميركا وإسرائيل وبترول العرب»، فصادروا ماعزه مجدداً وعرضوا عليه إعادتها مقابل تركه المزرعة فرفض، وراجع مسؤول الميليشيا المتعاملة سابقاً أنطوان لحد الذي قال له: «صادروا ماعزك ولم يبق لديك شيء. اترك المزارع وارحل»، فأجابه أبو قاسم: «لديّ خمسة كلاب سأبقى أسرح بها في المزارع ولن أغادر».
وسط هذه المضايقات، توفيت زوجته السابقة حميدة هاشم في بسطرة ونُقلت على السلّم إلى مزرعة حلتا القريبة، لكن أبا قاسم لم يستسلم لقدره ولا لجنود الاحتلال، بل بقي متمسكاً بمزرعته الى أن جاء التحرير في أيار 2000 وأصبح حراً طليقاً، لكن الاحتلال بعد انسحابه من بسطرة وجّه ضربة قاضية لأبي قاسم أودت بحياة القطيع، ليترك المزرعة، وهو اليوم بانتظار تعويضات مجلس الجنوب.


أبو قاسم يخسر مناعته

لم يعرف أبو قاسم طبيباً أو دواءً طيلة فترة وجوده وحيداً في المزارع، فالطبيعة أكسبته مناعة وصحة جيدة استطاع معهما البقاء بعيداً عن أي خدمات. لكن الرجل يواجه اليوم أوضاعاً صحية صعبة أقعدته، نتيجة عيشة «البهدلة» والحرمان لأكثر من 30 عاماً، حتى وجد نفسه عاجزاً عن تأمين أبسط حاجياته وضرورات الاستشفاء والأدوية.