ضحى شمسولا دومري. طريق الحمرا عصر اليوم، خالية تماماً. تنساب سيارة السرفيس بيسر في نزلة السارولا. تنعطف إلى الشارع نفسه: لا أحد. لا مارة. لا متسكعين أمام الواجهات أو على درج الدومتكس. أما ناس المقاهي، الذين اعتادوا وضع كراسيهم بمواجهة الشارع للفرجة على المارة والسيارات، فقد كانوا هنا، إلا أنهم كانوا يديرون ظهورهم للشارع. فالفرجة كانت في اتجاه آخر تماماً: الشاشة الضخمة التي رفعها أصحاب المقهى داخل مقهاهم لمتابعة مباريات كأس العالم. الشاشات التي أصبحت شبه إلزامية في المقاهي لئلا تخسر زبائنها في هذا الشهر الكروي الفضيل، نبتت كالفطر في كل مكان، مستبقة موسم رمضان ومسلسلاته بعد شهر من المونديال. تمر أمام المقاهي الحمراوية، واحدة واحدة. الوضع ذاته. لا بل ان متفرجين وقوفاً زاحموا الزبائن المعتادين في هذا الوقت من متقاعدين وعاطلين من العمل، فسدوا أبواب الكافيه دو باري لأن مقاعد الداخل لم تتسع لهم. أما موظفو المحال المجاورة غير المزودة بتلفزيون، فقد وقفوا هم أيضاً يتفرجون وعينهم على محالهم.
في مقهى «ريد»، فوّلت مباراة ألمانيا ــــ الأرجنتين المكان بأنصار المنتخبين، و..أنصار الخاسرين، كالبرازيل، الذين جاؤوا ليتشفوا بخسارة محتملة لمن «أخرجهم» من الملعب. بين الزبائن الذين شخصوا للشاشة الوحيدة التي وضعت خارجاً 3 نساء ورجل أجانب ومعهم طفل. تراهم أرجنتينيون أم ألمان؟ ما إن يسجل الألمان هدفاً، حتى تفهم أنهم أرجنتينيون. كلما اهتزت شباك الأرجنتين كان «الجمهور» ينظر باتجاه هؤلاء. لكنهم بدوا «أروق» من مشجعي فريقهم من اللبنانيين. اللبنانيون بدت خيبتهم أعمق بكثير، أما «الأرجنتينيون»، أهل الفقيد، فقد بدوا كأنهم خسروا... مباراة فوتبول. مهمة كثيراً، لا شك، ولكنها مبارة فوتبول. أما في مقهى «ستاربز» (وليس باكس) فقد كانت الشاشات في كل مكان. لا تجد حتى مقعداً واحداً، فيما خيمت «غطيطة» من دخان المعسل فوق رؤوس الزبائن الذين كانوا يتعاونون جميعاً على ملء الهواء به بتكاتف وتعاضد منقطعي النظير. تفاجأ بأن شاشة لمتابعة المباراة وضعت... تحت الأرضية الزجاجية لمدخل المقهى! تسأل الغرسون ممازحاً إن كانوا قد وضعوا شاشة أيضاً في التواليت لئلا يفوت الزبون شيء بسبب «نداء الطبيعة»؟ تصّور أن تكون في الداخل، وأن يسجل فريقك هدفاً، أو تهتز شباكه، معاذ الله! يا لطيف!
الحماسة العامة تنتقل إليك كالرشح. تجد نفسك تهلل لهذا أو ذاك، لا فرق. يلتفت إليك أحد الأصدقاء: «انتِ مع مين؟». تضحك، ففي النهاية تريد أن تهلل فقط، أن يجمعك شيء بهؤلاء المواطنين الفرحين كالأطفال بالمباراة. تحبهم فجأة. تحس بأنك من زمان لم تشعر بأنك تحبهم. تحس بأن حاجتهم للفخر بفريق تبنوه، مشروعة. تفهم الحاجة، وتحس بها أنت أيضاً. فبماذا نفخر في حياتنا العامة؟ ما هي إنجازاتنا لتتحول إلى مفخرة تؤسس لهوية مشتركة لبنانية؟ كأنه لا وجود لهذه الهوية إلا بوجود ما يهددها. حتى تحرير الجنوب ينغص فرحته سنوياً على اللبنانيين لبنانيون آخرون بدورهم تتعرض ثوابتهم «الوطنية» إلى التنغيص في مناسبات أخرى. بم نفخر سوية؟ كلنا: أولاد بيروت والجنوب والعكار وبعلبك وجبيل والشوف؟ لا شيء.
في السرفيس الخارج من الحمرا باتجاه البحر، ينادي السائق وقد حبكت النكتة معه، على «ركاب» التهوا عنه بمتابعة شاشات الشارع: «ألو..ألو»، يقول ثم ينظر إليّ ضاحكاً «ما في حدا عالخط». من يلعب؟ أسأله، فيجيب مستشهداً بالإعلام: «يمكن ألمانيا؟»، مردفاً: «مع أني ما بفهم بالفوتبول، بس كنت مع اليابان». مع اليابان؟ يرد ببساطة: «ايه، سيارتي يابانية، شو بكون مع المرسيدس؟». ثم يردف «أساميهم ع أسامي السيارات! طلعت ماركات السيارات اسامي عيّل! معهم لعّيب اسمو هوندا. من بيت هوندا يعني، على اسم واحد اخترعها. إجا واحد تاني اسمو أكور، عمل موديل بالهوندا صار اسمها هوندا اكور. فهمتِ كيف عمي؟ يعني كيف عنا غندور مثلا؟ هني عندهم هوندا». أسأله: يعني لو كان لبنان بلد صناعة سيارات، فستصبح ماركات سياراته على اسم عائلاته؟. يرد: «مزبوط. أنا مثلا من بيت العيتاني .حضرتك من بيت شو؟ والنعم. شمس من وين؟ المهم. يعني بيصير في سيارة اسمها شمس أو عيتاني» ثم يستطرد كمن يقلب احتمالات الفكرة: «انو شو موديل سيارتك؟ عيتاني 2010». ثم يغرق في الضحك مضيفاً: «بس هلق غالية، معي داعوق 2007، ببيعها وبشتري عيتاني 2010»! ويضيف: «ليش شو بها عيلة شبارو؟ بالزمان كان في سيارة اسمها سوبارو، بشو أحسن من بيت شبارو؟ وسوبرة كثير حلو اسم سيارة». ثم يقسم «وحياتك في مكنياسينية (ميكانيكي سيارات) عنّا بيفهموا بالمرسيدس أكثر من الألمان، بس ما طالعلن بهالبلاد الا يزقفوا للالمان». أسأله ممازحة: «وين ببريتال؟» يقول: «عم تضحكي؟ إذا في عدل؟ بيت جعفر بيطلعلن ماركة». ماركة سيارات؟ يقول بسرعة بديهة: «لأ، تجميع سيارات» ثم يضحك ملياً.