عمر نشابةوزير الداخلية والبلديات زياد بارود يمشي على رؤوس أصابعه بين ألغام «السياسة التوافقية» وفخّ العوم على شبر من مياه يؤمل منها بحر من الإصلاح والتطوّر والنموّ.
المحامي الشاب لا يخضع للتهديد ولا يقبل التحذير من عواقب تنفيذ القانون، لكنه يدرك أن الإصلاح الجذري لأداء مؤسسات «الداخلية» وإداراتها يستدعي إرادة سياسية شاملة وصادقة. فلا يمكن إصلاح مؤسسات قوى الأمن الداخلي والأمن العام وغيرها في ظلّ المحاصصة السياسية والطائفية والمذهبية التي يندرج ضمنها مديروها وضباطها ووحداتها.
الإصلاح الجذري لا بدّ من أن يتعذّر إذا كان المدير العام من حصّة سياسية ومذهبية معيّنة وقائد الوحدة من حصّة أخرى و«شعبة» أمنية من نصيب تيّار بمواجهة تيّار آخر.
فممنوع على وزير الداخلية تقديم الكفاءة على الدين والمذهب؛ لأن في ذلك إخلالاً بالمحاصصة الضرورية بحجّة الحفاظ على التوازن الطائفي.
وممنوع على وزير الداخلية تفضيل تطبيق القانون على التسويات السياسية. فذلك يقتضي ملاحقة بعض أزلام زملائه في الطبقة السياسية، ما قد يعرّضه لمواجهة واسعة النطاق لن يقوى الخطّ التوافقي الذي ينتمي إليه على مساندته فيها.
ممنوع على وزير الداخلية التمرّد على شعار «الضرورات تبيح المحظورات» المتخلّف. فذلك الشعار كان مرجعاً لمحطات سياسية حاسمة مرّت بها البلاد أخيراً، وأدّت إلى قيام الحكم التوافقي القائم.
ممنوع على وزير الداخلية أن يضرب يده على الطاولة ويأمر بتوقيف جميع الفاسدين في الإدارات التابعة لوزارته. فلا يكفي عديد آليات التفتيش وكفاءة العاملين فيه للقيام بتلك المهمة.
يتوضّح بالتالي السبب الكامن وراء تفكير بارود أحياناً بالاستقالة. فبين الناس من ينظر اليوم إليه من طرف العين ومن يفضّل التريّث قبل التعبير عن اليقين بقوة الحسم التي يفترض أن يتمتّع بها الوزير الواعد.
نظراً إلى كلّ ذلك، قرّر الوزير البقاء في موقعه؛ إذ رأى أن خيار الاستقالة هو خيار سهل سيُعَدّ تسليماً لانهيار ما بقي من مؤسسات الجمهورية. وقرّر، على ما يبدو، اعتماد منهجية عمل ترتكز على الآتي:
أولاً، عدم إغفال الرؤية الشاملة في تحديد المسؤولية. ويقتضي ذلك اعتماد تكامل إدارات الدولة وانتهاج الشراكة بين المؤسسات وبين القطاعين العام والخاص. لكن بينما يتّهم البعض الوزير بالهرب من تحمّل المسؤولية عبر توزيعها على كلّ الوزارات والإدارات المعنية والقطاع الخاص، إلا أن الاعتقاد بأن البوليس وحده يقمع الجريمة، وأن الشرطة وحدها تحلّ مشاكل السير، وأن الأمن العام وحده يعالج مشاكل الأجانب، وأن الداخلية وحدها «بتشيل الزير من البير» ليس واقعياً.
ثانياً، التواصل الدائم مع جميع القوى ومقابلة طلبات الزعماء والوزراء والنواب بابتسامة. فهم يعرفون أن قوى المحاصصة داخل المؤسسات هي التي توفّر لشركائها كلّ ما يبتغونه ولا حاجة لتدخّل الوزير. وصحيح أن بارود «ما بزعّل حدا»، لكنه يأبى تمديد الاستنسابية، التي تميّز الخدمة العامّة منذ قيام الجمهورية، من دون ضوابط.
ثالثاً، التذكير بحقوق المواطنين لتُعَدّ، في حدّ أدنى، حصّة من الحصص السياسية والطائفية والمذهبية في إدارات «الداخلية». وإذا كان القضاء على الطائفية السياسية مستحيلاً في المرحلة الراهنة، فلا يجوز إلغاء مكانة المواطنية. ويحاول بارود، في إطار الهامش الضيّق المسموح به، الاستجابة لمطالب المواطن المجرّد من انتماء طائفي أو مذهبي أو سياسي. لكن بقدر ما يضيق ذلك الهامش، يبتعد الناس عن بارود ويشتدّ انتقادهم.
رابعاً، تكرار الدعوة إلى تقديم الخدمة على السلطة، وتقديم السمعة الجيدة على العجز (عبر تكرار التركيز على نصف كوب الماء الملآن). فالوزير الذي لم يترشّح للانتخابات النيابية، ولم يوظّف أفراد عائلته في الإدارات الرسمية، لم يقم بما يضمن استمرار سلطته في الدولة على طريقة بعض أسلافه. بل يسعى بارود إلى الحفاظ على رصيد صورته وسمعته، وهو ما يفسّر اهتمامه الكبير بالإعلام والتواصل المباشر مع الناس. وبينما لا يخفى على أحد عجز الداخلية عن تقديم الخدمة الكاملة التي يستحقّها المواطن، يتمسّك بارود بالتجارب الناجحة ويحاول تعميمها والبناء عليها وترسيخها في إطار الخدمة العامة.
خامساً، المتابعة والتوثيق عبر التكرار والتسجيل. ففي مكتبه مئات الملفات التي تحوي مذكّرات إدارية وتعاميم ودراسات وتوصيات وتوجيهات صدرت عنه وعن مكتبه يمكن مراجعتها في إطار المساءلة والمحاسبة التي يخضع لها الوزير. لكن يمكن أيضاً في ما يُعَدّ بالأهمية نفسها، الاستفادة منها في عملية قياس التجربة والخطأ التي لا بد منها في مرحلة إعادة بناء مؤسسات الجمهورية.
زياد بارود ممنوع من أشياء كثيرة يتوقّعها منه الناس. ربما صَحَّ القول هنا إن «الممنوع مرغوب» أكثر من أي مكان آخر.