عمر نشّابةلحظات قليلة قبل رفع قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين (الصورة) جلسة الاستماع طلب داريل مندس، أحد المدعين العامين من مكتب دانيال بلمار، الكلام، فأدلى بتصريح يفترض أن يكون له وقع مدوّ على السلطات القضائية والسياسية اللبنانية، إذ إنه أشار الى أن ما أرسلته السلطات اللبنانية الى لاهاي إثر انتقال الاختصاص في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري الى المحكمة الدولية العام الماضي تضمّن نسخاً عن المستندات، لا المستندات الأصلية كما تقتضي أصول انتقال الاختصاص القضائي. رفض المدعي العام لدى محكمة التمييز القاضي سعيد ميرزا أمس التعليق على الأمر قبل أن يطّلع بنفسه على ما ورد على لسان منديس، إذ يبدو أنه لم يتابع وقائع الجلسة العلنية في لاهاي عبر التلفزيون.
مندس قال حرفياً بحسب الترجمة من الانكليزية الى العربية كما نقلها تلفزيون «أخبار المستقبل»: «لن نتراجع، بل إننا على أتم الاستعداد لتزويدكم بالمعلومات المستلمة من السلطات اللبنانية طالما أنكم تعرفون أن ذلك يتعلّق بما قدّمه الادّعاء في 27 نيسان 2009 في الفقرة 18، فإن المدعي العام قد حصل على عشرة صناديق تحتوي على 253 ملفاً، وكلّ ملفّ يحتوي على عدد من المستندات. وليست لدينا أي إشارة من السلطات اللبنانية بأن هناك احتجازاً للوثائق والمستندات، بل إن كلّ المعلومات تفيد بأنه في ما يتعلّق بهذه الدعوى يخصّ القانون المعمول به. ويبدو أن معظم ما تسلمناه صور أو نسخ تصويرية. وفي 29 نيسان 2009 تبين أن عشرة صناديق مشمّعة تحتوي على 253 ملفاً، ويبدو بعد فحص هذه المواد أن معظمها أو معظم الوثائق يبدو أنها نُسخ».
يبدو أن المدعي العام الدولي حسم مسألة فصل «شهود الزور» عن المشتبه فيهم باغتيال الحريري
مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر كان المحقق العدلي في قضية اغتيال الحريري يوم انتقال الاختصاص، وبالتالي يفترض أن يكون هو المسؤول الذي أشرف على عملية توضيب ملفات ومستندات ومحاضر التحقيق وإرسالها الى لاهاي، حيث تسلّمها رئيس قلم المحكمة ومن ثمّ سلّمها الى مكتب المدعي العام بلمار. وورد أمس عن أوساط قصر العدل في بيروت أن المحققين العدليين المتتالين في القضية كانوا يرسلون نسخاً عن ملفات التحقيق الى لجنة التحقيق الدولية المستقلة، وذلك بحسب ما تقتضيه مذكرة التفاهم التي وقّعت بين الحكومة واللجنة. وكان يومها القضاء اللبناني هو المرجع الأساس، وبالتالي كان المحقق العدلي يحتفظ بالمستندات الأصلية، «ويبدو أن مكتب بلمار لم يتنبه جيداً الى كامل مضمون الصناديق التي أرسلت الى لاهاي، اذ إنها تحتوي على النسخ التي أرسلت الى لجنة التحقيق، إضافة الى المستندات الأصلية».
التجاذب بين ما أفاد به الادعاء الدولي للمحكمة والقضاء اللبناني يستدعي إعادة التدقيق في المرحلة التي رافقت انتقال الاختصاص القضائي من بيروت الى لاهاي.

استياء المدعي العام؟

جلسة المحكمة الدولية العلنية الثانية سبقها على ما بدا أمس استياء المدعي العام الدولي دانيال بلمار من قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين. فبلمار الذي فوجئ بقرار فرانسين (في 25 حزيران) الذي قضى بعقد الجلسة بناءً على طلب اللواء جميل السيد، قرّر عدم الحضور. وبينما خفّف قانونيون من أهمية ذلك عبر اعتبارهم أن المدعي العام ليس ملزماً بالحضور، قال أمس أحد كبار الموظفين في المحكمة الدولية عبر الهاتف من لاهاي، وبنبرة غاضبة إن «المدعي العام لا يعتقد أن قرار قاضي الإجراءات التمهيدية كان مناسباً، فالموضوع ليس من اختصاصنا القضائي». لكن، هل كان الرجل مستاءً من القاضي فرانسين؟ «لم أسمع منه شيئاً، لكن انشغال مكتب المدعي العام بالجلسة شغل بعض فريق العمل عن مهامهم الأساسية وأغضب ذلك بلمار الذي يعمل بكثافة (intensely) على عشرات الملفّات القضائية المعقّدة التي تستدعي التركيز، لا الانشغال بأمور أخرى».
بعد رفض الإجابة عن أسئلة فرانسين، أجاب مندس عن السؤال الأول في ما بدا تراجعاً لفريق الادعاء
إن ما يفترض أن يتجنّبه مكتب بلمار، بحسب المعايير المهنية للتحقيقات الجنائية، هو الانشغال عن التحقيق في الدوافع الكامنة وراء تقدّم عدد من الأشخاص بمعلومات غير صحيحة عن مراحل التخطيط للجريمة وتنفيذها. لكن يبدو أن المدعي العام الدولي حسم مسألة فصل «شهود الزور» عن المشتبه فيهم باغتيال الحريري. لكن ذلك الحسم يفترض أن يستخلص بعد إجراء تحقيق موسّع وبعد الاستماع الى هؤلاء الأشخاص ومواجهتهم بالذين يتهمونهم بالضلوع في الجريمة، وهو ما لم يقم به فريق بلمار حتى اليوم.
لكن فريق الادّعاء رأى خلال جلسة المحكمة أمس أن التحقيق في شهود الزور يقتضي «توسيع اختصاص المحكمة» وكأن قضيتهم منفصلة كلياً عن القضية التي ادّعوا معرفتهم بتفاصيلها. وبدا ذلك دعوة الى انتقال اختصاص المحكمة من ضيّق الى أضيق. فالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان تتميّز بأضيق اختصاص بين جميع المحاكم الدولية الأخرى، إذ إن اختصاصها محصور بجريمة إرهابية واحدة، وجرائم أخرى وقعت بين 1 تشرين الأول 2004 و12 كانون الأول 2005 فقط إذا ثبت تلازم تلك الجرائم مع جريمة 14 شباط 2005. والمطلوب بحسب فريق الادعاء تضييق إضافي لاختصاص المحكمة بحيث لا يشمل ملاحقة أشخاص قد يكونون، من خلال تضليلهم التحقيق اللبناني والدولي، شاركوا في الجريمة على نحو مباشر أو غير مباشر.

الادعاء لم «يزمط» من الأسئلة

فريق الادّعاء لتضييق إضافي لاختصاص المحكمة فلا يشمل ملاحقة أشخاص قد يكونون ضللوا التحقيق
طرح القاضي فرانسين عدداً من الأسئلة على فريق الادعاء. سأل: هل بإمكانكم أن تشيروا إذا تسلّمتم ملفات التحقيق من السلطات اللبنانية أم نسخاً عنها؟ ألا يحق لشخص احتجز الاطلاع على أسباب احتجازه؟ وإذا كنتم لا ترون أن المحكمة الدولية لديها الاختصاص في تأمين ذلك الحقّ، فهل بإمكانكم تحديد المحكمة التي يمكن أن تؤمن له هذا الحقّ؟
رفض داريل مندس وإيكهارت فيتهوبف بداية الإجابة عن أسئلة فرانسين بحجة أن ذلك قد يُعدّ إقراراً بأن اختصاص المحكمة يشمل القضية المطروحة واعترافاً بصفة اللواء السيّد للتقدّم بطلبه «الحصول على المواد الثبوتية الخاصّة بالإدلاءات التشهيرية والاحتجاز التعسّفي». لكن مندس عاد وأجاب عن السؤال الأول كما ذكر آنفاً، في ما بدا تراجعاً واضحاً. كذلك، فإن رضوخ الادعاء لأمر قاضي الإجراءات بحضور الجلسة يمكن أن يُعدّ اعترافاً شكلياً بتمتّع اللواء السيّد بالصفة القانونية للتقدم بطلبه وبحقّه في التعبير بالصوت الحيّ (viva voce) عن موقفه أمام القاضي وبمواجهة رأي فريق الادعاء الدولي.