أليسار كرمكثيرة هي الأسئلة التي انهالت على الصندوق الخشبي المعلّق عند باب المدخل. لا أسماء ولا إشارات أو رموز تكشف عن هوية السائل، فقط علامات استفهام تشي ببعض الجهل والغموض الذي يحيط بالـ«آخر». بيت مري التي لم تشهد صدامات بين المسلمين والمسيحيين خلافاً لكثير من المناطق اللبنانية، شهدت هذه المرة لقاءً (من نوع آخر) في مدرسة الفرير، التي تحولت إلى مركز للمخيمات الصيفية واللقاءات الشبابية. شبان وشابات أنهوا امتحانات آخر السنة وافتتحوا العطلة الصيفية بنشاط نوعي: مخيم صيفي بعنوان «عقد اللولو» يمثّل مساحة عمل مشترك يختلط ضمنها أبناء الطوائف والمذاهب ليكتشف بعضهم خصوصيات بعض، ويشبعوا فضولهم وحبّهم لاكتشاف «الآخر»، ويطرحوا الهواجس والأسئلة التي تجول في خاطرهم «لعلهم يصبحون كحبات اللولو الجميلة التي لا يكتمل جمالها إلا عندما تتلاقى في عقد».الفِرق التي حملت أسماء جبال لبنان من شماله حتى جنوبه، عمدت إلى إنهاء عملها باكراً يوم علمت بوصول رجال دين مسلمين ومسيحيين لمشاركتها السهرة. لم يكتف أحد بائتمان صندوق خشبي صغير على تساؤلات بديهية «لماذا يجب ارتداء الحجاب؟ ماذا تعني الإشارة التي يرسمها المسيحيون حول رأسهم؟» بل طرحوا أسئلتهم بكل عفوية منتظرين، وألحّوا للحصول على إجابات واضحة وصريحة «لماذا ترتدي الشابة المسلمة ثياباً شتوية على مدار السنة؟ لمَ ترتدي بعضهن ثوباً أسود، فيما تكتفي أخريات بارتداء الثياب الملونة حتى في الحداد؟ من هو السيد محمد حسين فضل الله، ولماذا أنتم حزينون لغيابه؟» أسئلة لم يتسع لها الصندوق ولا الوقت لتحصل على الإجابات التي ترضي سائليها، كذلك لم يتمكن رجال الدين، أحياناً، من تبسيط الإجابة عنها وإيصالها بلغة سهلة بسيطة تحاكي اهتمامات المشاركين في المخيم وتتماشى مع العفوية الطاغية على جوّه. إحداهن همست في أذن المسؤولة «وما هو التجسّد واللاهوت والناسوت؟ ماذا يقصد بهذه الكلمات الصعبة؟» وآخر غمز صديقه قائلاً: «بلّشوا يتفلسفوا علينا». عاش المسؤولون الناشطون في حركة «لنلتقي» وفي معهد الدراسات الإسلامية والمسيحية في جامعة القديس يوسف في حالة استنفار دائم. كانوا يجولون بنظرهم في أرجاء المكان الذي يضجّ بالحركة وتملأه ضحكات المشاركين بالحياة، يراقبون بانتباه تحركات الفرق ويحرصون على سير العمل في المجموعات وعلى تطبيق البرنامج المليء بورشات التدريب وحلقات الحوار وحصص الرياضة والرسم والمسرح والتصوير والكتابة... يصغون إلى المناقشات والأحاديث الجانبية التي تظهر توقاً إلى «كسر الحاجز النفسي والاجتماعي الذي يفصلنا عن الآخرين، وبناء صداقات معهم»، وفق ما قالت إحدى المشاركات. تفاوتت حاجة المشاركين في المخيم إلى معرفة التقاليد الدينية وفهم الشعائر والطقوس. فمنهم من يزور قريته في الجنوب والشوف وأعالي المتن وهي قرية «مختلطة»، كما يحلو له القول، للدلالة على اختلاط أبناء الطوائف في الحياة اليومية. ومنهم من تعرّف في مدرسته التابعة لإحدى المطرانيات إلى صديق مسلم أو العكس، أو سمع من أهله أن التعاطي مع أبناء الطوائف الأخرى بقلة احترام أو استخفاف ورفض التعرف إليهم «عيب». في النهاية، أكد معظمهم في جلسة عفوية، قبل الحفل الختامي للمخيم، أنهم اكتسبوا تقنيات صغيرة تسهم في تجنّب النزاعات الفردية اليومية.