هم بحّارة ويعتاشون من البحر. صيادو مرفأ جونيه يغضبهم الغبن الذي يعانونه بعدما أفسحت الدولة في المجال أمام هواة الصيد من أجل منافستهم. أما مصدر الرزق، أي البحر، فملوّث بأشكال وألوان من السموم تبدأ بمياه الصرف الصحي ولا تنتهي بمخلّفات المصانع التي تنحدر من الجبال لتصب هناك، حيث يصطادون كفاف يومهم لو وجد
ريتا بولس شهوان
حين وصلنا إلى مرفأ جونية السياحي، كان رامي روكز نائماً. على مقعد قارب سياحي يملكه أحد متمولي كسروان، يستلقي البحّار الشاب في غفوة ما بعد الظهر. يصحو مصدوماً لدى سماعه سؤالنا عن «ابن روكز». اسم الوالد الأشهر بين بحّارة كسروان، كان كفيلاً بكسر الحواجز بيننا. يصمت الشاب هنيهة، متلهياً بقضم أظافره، ويبادرنا في السؤال: «بتعرفي الوالد؟»، لاعتقاده أنّ بحّارة جونيه، أو العدد القليل الباقي منهم، وحدهم يعرفون بعضهم بعضاً: فالعائلات الكسروانية تخالهم موظفين في «البور» السياحي وأنّهم موجودون هنا من أجل قيادة القوارب السياحية. أما السيّاح، فيعتقدون أنّ الشبك الأزرق المتروك على الرصيف ليس إلاّ ديكوراً لجذبهم. فكيف يمكن أحداً معرفة روكز روكز الذي توفي منذ أكثر من عشر سنوات عن سنين من الملح والماء والسمك؟ كان روكز أستاذًا، ومثالاً يحتذى بصبره وصلابته بالنسبة إلى العديد من بحّارة كسروان. أما سؤال رامي، ابنه الثلاثيني، فلم يكن إلا نوعاً من العتب على الجميع مبطنًا بالخيبة.
بعض شؤون «بور الصيادة»، الملاصق لنادي الضباط، كتنظيم مواقف «الفلوكات»، ينظمها الجيش اللبناني «بالمونة» بين أمين المرفأ المكلّف من رئيس الميناء، والجيش. يذكر أنّ دور هذا الأخير، وفق مصدر في وزارة النقل تمنى عدم ذكر اسمه، هو حفظ الأمن وملاحقة التهريب إذا حصل في كل المرافئ بالتنسيق بين رئيس الميناء ورئيس تعاونية صيادي الأسماك، وهذه حال كل من «بور» جونيه وموانئ الدورة، ضبيه وجبيل. وهذا ما شّكل أزمة مواقف «فلوكة» لبعض البحّارة الخائفين من «سلطة الجيش»، على حد تعبير عدد منهم. ووفق المصدر عينه، لا قانون يمنع البحّارة من الحصول على مواقف لـ«الفلوكة» مهما كان عددها، في «بور» جونيه، هذا «إن وجدت»، كما يقول.
ليس هناك شيء آمن في البحر، حتى قوانين الدولة يمكن خرقها. مخالفات عدة تحصل هنا، على الرغم من التشدد الذي تمارسه وزارة الزراعة. وقد صدر، أخيراً، قرار حمل الرقم 1/20، منع استعمال أنواع محددة من الشباك، وبنادق الصيد حتى 15 آب.
وبالنسبة إلى شروط الحصول على رخص صيد وكيفية تنظيم المنافسة بين الهاوي والصياد المحترف، أوضح مصدر في وزارة الزراعة أنّ كل أنواع الصيد تتطلب رخصة، بما في ذلك الصيد البحري بواسطة «القصبة»، مشيراً إلى أنّ تكلفة الرخصة لا تتجاوز 11 ألف ليرة لبنانية. هكذا، لا تمييز في القانون بين الهاوي والصياد المحترف، فكل هاوٍ يمكنه أن يتحول إلى محترف وبالعكس. لكن رئيس تعاونية صيادي الأسماك في جونيه مالك طايع شكا من طغيان عدد الهاوين على الصيادين، فـ«بور» جونيه وحده يضم 132 هاوي صيد.
هكذا، يُترك بحّارة جونيه وحدهم يقارعون الفقر ويبدو أنّ لكل منهم أساليبه الخاصة في محاربته، وإن كانوا ينتظرون بعض الإعانات التي تصلهم مرة واحدة كل خمس سنوات. جورج فغالي، أحد بحّارة جونيه، أمضى ساعتين من الوقت ينظف آلة كهربائية، ابتاعها من محل الخردة بعشرة آلاف ليرة لبنانية ليستخدمها محرّكاً لـ«الفلوكة». هكذا، يوفّر على نفسه أربعمئة دولار. جورج «خبير التوفير»، كما يسميه أصدقاؤه، يأخذ على عاتقه إصلاح «فلوكاتهم»، كما يقولون. «من يفعل هذا من هواة الصيد؟»، يسأل جورج نفسه ويجيب: «لا أحد، فغالبية الهواة هم من أساتذة المدارس والمحامين وحتى أصحاب الشركات، أي من طبقة اجتماعية ميسورة ومقتدرة». يستدرك: «على كل حال جميع هؤلاء يعملون في النهار، وفي الليل يأتون إلى البور لممارسة هواية الصيد». ثم يعلّق ساخراً: «شو وضعن متل وضعنا بيتصيّدوا لياكلوا؟». ويردف: «هودي الأغنياء بيتصيّدوا ليتسلوا، وإذا تعطّل محرّك فلوكتهم أو قاربهم يشترون محركاً جديداً لأنّ لا وقت لديهم يضيعونه».
وأكثر من ذلك، يشكو جورج من «سرقة الهواة مواقف فلوكاتنا عند الميناء وشبكات الصيد التي ندفع عليها دم قلبنا»، وكل ذلك على مرأى من الجيش.
عوامل عدة تغذّي شعور النقمة على هواة الصيد، عدا كونهم من طبقة الأغنياء أو الميسورين.

ينتظر بحّارة جونيه الإعانات التي تصلهم مرّة واحدة كل 5 سنوات

لا يفهم رامي والعديد من زملائه مثلاً كيف أنّ المسؤولين عن تنظيم شؤون «بور» جونيه، يساوون بينهم وبين «هاوٍ» حصل منذ أيام على رخصة صيد سمك، ويحتل «الموقف البحري للفلوكة تبعنا». يعود رامي إلى قضم أظافره. يصمت قليلاً، قبل أن يردد اسم والده «روكز» قائلاً: «رزق الله على أيامك يا أبو رامي». يستعيد الماضي فيتذكّر كيف كان أبوه أباً لثمانية أولاد، وكانت «الغلة تكفينا وتفيض». «هيدا الشي كان على أيام روكز» يقول بثقة. أما اليوم، فغلّة النهار الواحد لا «تسمح لنا سوى بشراء وقيّة لحمة مع ربطة خبز».
هنا يلفت رامي إلى أنّ معدل الغلّة اليومية من صيد السمك لا يتجاوز 20 ألف ليرة يومياً، في ظل إهمال الدولة للثروة البحرية، على حد تعبيره. يقول: «في بورنا تتجمع كل مياه صرف كسروان والمواد الكيماوية والزيوت المحروقة وغيرها من الملوِّثات الآتية من معامل ومصانع الزوق وتصبّ على شاطئ جونيه من دون وازع أو رادع قانوني، فتقتل بذور الأسماك التي تكون متل الغبرة»، يقول ذلك وهو يقلّد بإبهامه وسبابته حجم حبة الغبار المشابهة لبذرة السمكة.
أمام المصاعب اليومية، والحالة الاجتماعية المتردية، وأمام غلاء المعيشة، وارتفاع الأكلاف، وبين سندان الهواة، ومطرقة تلوث البحر، كيف لا يترك «بحّارة جونية» بوراً عمره من عمر جونيه؟