تُحاط بكتمان شديد غالباً، فلا يخرج منها إلى دائرة الضوء إلا القليل. يصفها البعض بأنها جرائم بلا أدلة، لذلك تُسجّل في خانة القضاء والقدر. بطلها طبيبٌ، منتحل صفة أحياناً، لا يتورّع عن إعمال مبضعه في جسد الأبرياء. أصحّاء يسقطون واحداً تلو الآخر لانعدام الرقابة وطمع ضعاف النفوس بالربح القليل
رضوان مرتضى
ميساء، ابنة الـ28 عاماً، أرادت أن تجري تغييرات بسيطة في شكلها، لكنها لم تكن تعلم أن هذه الرغبة ستضع حداً لحياتها، وأن عملية تجميلية بسيطة ستقتلها. فقد لمحت الشابة إعلاناً لمركز تجميل على إحدى القنوات التلفزيونية. إنه مركز لتكبير الصدر وتصغير الأنف ونزع الشعر. أخبرت زوجها أنها ستُجري جراحة تجميلية لتكبير صدرها. وافق الأخير، فقصدا معاً المركز المذكور. قابلا المديرة المسؤولة، فأخبرتهما أن تكلفة العملية تبلغ 1900 دولار، لافتة إلى أن العملية ستُجرى ببنج موضعي داخل عيادتها. حُدّد الموعد، فطلبت مديرة المركز مبلغ 500 دولار يُدفع مقدّماً على الحساب. حضرت ميساء برفقة زوجها طاهر ش. في الموعد المحدد، لكن طبيبة التجميل لم توافق على إجراء العملية في العيادة، طالبة نقلها إلى المستشفى. بعد أخذ ورد سببه خوف الزوجة من الخضوع لبنج عام، رضخت ميساء ممنية النفس بالنتيجة الافتراضية للعملية، فوافق زوجها على نقلها إلى المستشفى. انتقل الجميع من مركز التجميل الكائن في الروشة إلى مستشفى ح. في عشقوت.
الساعة الحادية عشر ظهراً، أخبر الزوج والزوجة أن مدة العملية لن تتخطى ساعة واحدة. دخلت ميساء إلى غرفة العمليات، وبقي طاهر منتظراً في الخارج. مرّت ساعتان من دون أن يخرج أحد. يسرد الزوج لـ«الأخبار» التفاصيل التي سبقت خروج جثة زوجته من غرفة العمليات: «أحسست بأن أمراً مريباً قد حصل. اقتربت من باب الغرفة وطرقته عدة مرّات. لم يجبني أحد. صرت أطرق بيديّ وقدمي على الباب. مرّت لحظات قليلة ليخرج بعدها طبيب التخدير. توجّه نحوي مسرعاً، سألته عن حال زوجتي فوضع المال الذي كنت قد دفعته له في جيب قميصي قبل أن يخبرني بأنه يجب نقلها إلى المستشفى بحالة طارئة. أجبته بأننا في المستشفى وبأنني لم أسأله عن المال، بل عن زوجتي، فكرر بأنه يجب أن ننقل زوجتي إلى مستشفى آخر لأن أمراً ما قد حصل».
بعد ساعتين وصل الصليب الأحمر لنقل جثّة الزوجة إلى مستشفى الحياة في عين الرمّانة. أخبروه أنها في غيبوبة، رغم أن تقرير الطبيب الشرعي أثبت أنها توفيت بعد ربع ساعة من بدء العملية. يقول طاهر: «توفّيت زوجتي، فأقمت دعوى على المسبّبين». ويلفت إلى أنه لجأ إلى الطبيب الشرعي حسين شحرور ليعرف السبب الذي أدى إلى وفاة زوجته، فاستحصل على تقرير يُفيد بأنها قضت اختناقاً نتيجة نقص في الأوكسيجين. النقص المذكور عُلّل بثلاثة احتمالات: إما أن عبوة الأوكسيجين كانت فارغة، أو أن الطبيب نسي أن يفتحها، أو أن أنبوب الأوكسيجين أُدخل خطأً في المعدة بدل القصبة الهوائية.
بدأت التحقيقات ليتبيّن أن المستشفى المذكور حائزٌ ترخيصاً من وزارة الصحّة. استُدعي مالك المستشفى وطبيب التخدير وطبيبة التجميل ومديرة المركز. بدأ المشتبه فيهم بتقاذف المسؤوليات. أرجع مالك المستشفى السبب إلى القضاء والقدر؛ فقد انتهى عمر ميساء بنظره. أما طبيبة التجميل، فرفعت المسؤولية عن عاتقها، وألقت باللوم على طبيب التخدير. توسّع التحقيق أكثر، فتبيّن أن طبيب التخدير ليس طبيباً، بل هو ممرّض يستدعيه مالك المستشفى؛ لأن تكاليف أتعابه أقل بكثير من تكاليف طبيب تخدير حقيقي. توفّيت ميساء، لكن التحقيق لا يزال بين يدي القضاء. أُقفل المستشفى بالشمع الأحمر بناءً على إشارة القضاء. فترة التوقيف مرّت قصيرة قبل أن يعاود المستشفى عمله. دفع المتّهمون كفالات مالية. المستشفى يستقبل المرضى هذه الأيام، لكن إحدى المحطات التلفزيونية نقلت خبراً قبل ثلاثة أسابيع يتحدّث عن تعرّض المستشفى المذكور لإطلاق نار من مجهولين. «ربما هناك حادثة مشابهة قد حصلت»، يقول الزوج خاتماً حديثه بأنه «يحمّل المسؤولية كاملة لوزارة الصحة التي تعطي التراخيص لمسالخ لا لمستشفيات».
الجدير ذكره أن الوفاة بسبب البنج هي أكثر الحالات شيوعاً في لبنان، وغالباً ما يرى الطبيب أن المسؤولية لا تقع عليه، بل على جسم المريض، علماً بأن قانون الآداب الطبية يخصص فصلاً للحديث عن هذه النقطة، فيشير إلى أنّ «على الطبيب المخدّر أن يأخذ من الجرّاح قبل التخدير أو قبل تجهيز المريض للعملية جميع المعلومات المفيدة، وعليه أن يتحمل مسؤولياته في مراقبة المريض منذ لحظة التخدير لحين الانتعاش الكامل».

توسّع التحقيق فتبيّن أن طبيب التخدير ممرّض يستدعيه مالك المستشفى؛ لأن تكاليف أتعابه أقل بكثير من تكاليف طبيب متخصص حقيقي

بعض ضحايا الأخطاء الطبية يجهلون حقوق المريض

لا إحصاء حقيقياً لمجموع الأخطاء الطبية المرتكبة في لبنان التي تنتج منها خسائر في الأرواح

حالة ميساء ليست الوحيدة في هذا المضمار، إذ كثيرون يحكون قصص أناس دخلوا المستشفى يمشون على أقدامهم وخرجوا «محمّلين في نعش». ينقل أقارب هؤلاء جملة تكفي لشرح السبب: «توفّي نتيجة خطأ طبي». فزوجة المهندس نيكولا جبران بخعازي، ميمي بخعازي المفجوعة بزوجها، تحكي ما حصل له كأنه يجري الآن أمام عينيها. تقول إن زوجها كان يجري فحوصاً عامة دورياً، لكنها تذكر أن أحد الأطباء أقنع زوجها أثناء زيارته شقيقته في أحد المستشفيات المعروفة، «بدافع الطمع بإجراء الفحوص نفسها مجدداً في المستشفى المذكور». تقول ميمي إن العائلة لم توافق على إجراء الفحوص؛ لأن صحة زوجها كانت أكثر من جيّدة، فضلاً عن أن أحد الأشخاص أخبرهم أن الطبيب مطرود من المستشفى الذي كان يعمل فيه سابقاً. أصرّ الزوج على إجراء الفحوص لأنه كان قد أعطى كلمته للطبيب، فكان ما كان. تُكمل الزوجة المفجوعة: «ثُقِبت رئة زوجي من طريق الخطأ أثناء إجراء أحد الفحوص، ما سبب له نزفاً داخلياً، دخل على أثره في غيبوبة لعدة أيام، وفارق بعدها الحياة». توفي الزوج ورب العائلة، فأقام أفرادها دعوى على الطبيب، على أمل محاسبته كي لا تتكرر المأساة مع عائلة أخرى. الشكوى اليوم أمام القضاء لبتّ مصير الطبيب الذي لا يزال يمارس عمله المعتاد.
طاهر وميمي نموذجان لضحايا الأخطاء الطبية الذين لجأ ذووهم إلى القضاء للاحتكام بعد حصول أخطاء طبية. لكن هناك الكثير ممن يقعون ضحايا لهذه الأخطاء الطبية، لكن لا يُبَلّغ عنها. أما أسباب صرف النظر فمتنوّعة؛ فهي مرتبطة بجهل حقوق المريض، أو لتجنّب طول أمد المحاكمة، أو لتجنب الوساطات والتدخلات التي «نسمع عنها في القضاء بهدف لفلفة الأخطاء التي يرتكبها بعض الأطباء» وفق ما يقول معنيون. فالسيناريو بنظر هؤلاء معروف وسيتكرر، وهو أن تؤلف الوزارة لجنة تحقيق في الحادث، فيجتمع أعضاء اللجنة أكثر من مرّة ثم يعلنون النتائج التي ستؤكد أن ليس هناك خطأ طبي، ويغلق ملف التحقيق بعد أن تشرّح الجثة وتبقى لأيام دون أن تدفن. في الإطار نفسه، نقل معظم الذين التقتهم «الأخبار» عدم ثقتهم بتحقيق نقابة الأطباء، وتحدّثوا عن اتفاق ضمني بين الأطباء يمنعهم من تشويه بعضهم سمعة بعض. وهناك من تحدّث عن عدم جدوى التقاضي، لذلك لم يبادر إلى تقديم الدعوى لمعرفته المسبقة بعدم وجود فرصة للحصول على الحق الضائع، سواء تقدم بالدعوى أو لم يتقدم. وهناك آخرون يعزونها إلى مشيئة الله المتمثّلة بالقضاء والقدر.
بعيداً عن الأخطاء الطبية القاتلة، هناك عدد من الحالات التي يجدر التوقف عندها. التشخيص الخاطئ قد يقع ضحيته أي مواطن، فزيارة طبيب واحد لم تعد كافية. إذ يجب على المريض أن يزور أكثر من طبيب ويجرّب أكثر من دواء حتى يتمكن من الحصول على ذلك الذي فيه شفاؤه.
في هذا السياق، يذكر كمال أنه ذهب إلى الطبيب ليعالجه من وجع في أسفل ظهره، فشخّص له ذلك الطبيب المرض ووصف له أدوية وحقناً. لم يهدأ الوجع، بل ازداد بعد أخذه للعلاج. راجع كمال الطبيب، فنصحه بإجراء جلسات كهربائية، لكن الجلسات لم تنفع وأصبحت رجله تؤلمه. اقترح أهل كمال عليه أن يشاور طبيباً مختصاً آخر للتأكد من الحالة، وبعد فحصه مجدداً وتصويره شعاعياً تبين أن أحمد يعاني من ديسك في الفقرة الأخيرة في العمود الفقري، فأوقف له الطبيب كل الأدوية والمسكنات وأخبره أن جلسات الكهرباء هي التي أثّرت على أعصاب الرجلين، ما زاد الوضع تأزماً. مرّ شهر على بدء العلاج الجديد، فبدأت حالته بالتحسن تدريجاً.
ما حدث لكمال يختلف عمّا حصل مع سهى (اسم مستعار)، فقد تعرضت الأخيرة لحادثة طبية أثناء إنجابها لابنها، فأُبقيت في غرفة العمليات لعدة ساعات بعد الولادة لأنها عندما استيقظت من البنج كان لونها يميل إلى الأزرق مع تورم كامل جسدها من تأثير البنج الزائد. وتقول سهى إن «العناية الإلهية وحدها هي التي أبقتها على الحياة لتربّي ابنها بعد الخطأ الأحمق» الذي حصل معها.
الخطأ الطبي عبارة عن فعل يُرتكب في العمل الطبي من دون قصد. لكن رغم ذلك، فإنه يكون قاتلاً في بعض الأحيان، فينتج منه موت المريض. أما أسبابه فعديدة، بحسب أحد المسؤولين المتابعين لهذا الملف، منها التسرع خلال العمليات الجراحية وعدم الانتباه، فإن «شروداً بسيطاً من الطبيب الجراح قد يؤدي إلى خطأ طبي، ويجب أن يكون الطبيب الجراح في كامل انتباهه حتى لا يقع فيه». ويشير المسؤول المذكور إلى أنه في كثير من الأحيان لا تساعد حالة المريض ووضعه الصحي المتدهور الطبيب على نجاح العملية «فيُعَدّ حادثاً طبياً إذا ما باءت العملية للفشل». في هذه الحالة «لا يكون الذنب ذنب الطبيب، بل ذنب القضاء والقدر اللذين يحددان مصير المريض». فالطبيب في هذه الحالة يبذل ما في وسعه طبياً.
أما عن العوامل التي تؤدي إلى وقوع الأخطاء الطبية، فهي كثيرة جداً بنظر المسؤول المذكور. إذ لا يمكن حصرها بسبب تطور العمل الطبي المستمر وظهور عوامل جديدة من وقت إلى آخر، لكن من أهم هذه العوامل في نظره هي عدم التزام المؤسسات بالمعايير العالمية للجودة، بالإضافة إلى استخدام أطباء ليسوا من أصحاب الخبرة والكفاءة.
تجدر الإشارة إلى أنه لا إحصاء حقيقياً لمجموع الأخطاء الطبية المرتكبة في لبنان التي تنتج منها خسائر في الأرواح. لكن مسؤولاً متابعاً لملف الاستشفاء يقول إن ثمة مبالغة في الحديث عن حجم الأخطاء الطبية في لبنان. في هذا الإطار، يُذكر أنه صدر عن وزارة الصحة الأميركية أن نحو 98 ألف شخص يتوفون سنوياً في الولايات المتحدة نتيجة الأخطاء الطبية التي تُعَدّ ثامن سبب للوفيات فيها. وتشير مجلة بريطانية مختصة بالشؤون الطبية إلى أن العدد قد يصل إلى ثلاثين ألف شخص يتوفون سنوياً في بريطانيا بسبب أخطاء طبية. وإذا ما أضيف إليه من يعانون عواقب وخيمة من جراء تلك الأخطاء دون أن تصل بهم إلى حد الوفاة، فإن تلك النسبة تصل إلى نحو مئة ألف شخص.
الأخطاء الطبية صارت تمثّل هاجساً لدى عديدين تدفعهم إلى التفكير مليّاً قبل زيارتهم لأي طبيب أو خضوعهم لعملية جراحية. فبحسب مسؤول قضائي، لقد أصبح معيار نجاح الطبيب يقاس بعدد المرضى الذين يُحضرهم إلى المستشفى. ويلفت المسؤول المذكور إلى أنه لا وجود لحل لتفادي وقوع الأخطاء الطبية إلا بمعجزة، لافتاً إلى أنها ستستمر ما دام العنصر البشري هو اللاعب الرئيسي فيها.


التحقيق في النزاعات بين المعالج والمريض

يقتصر التطور الوحيد الذي شهده ملف الخطأ الطبي عموماً على القانون الرقم 313، الصادر في 19 نيسان 2001، الذي أعاد التأكيد في المادة 31 على لجنة التحقيقات المهنية، التي تتولّى درس الأمور والنزاعات الناشئة بين الأطباء، أو بينهم وبين مرضاهم، المحالة عليها من النقيب، أو من مجلس النقابة، وعليها أن تجري التحقيقات اللازمة عند الاقتضاء، وأن ترفع تقريرها إلى مجلس النقابة، وعليها أن تستشير عند الحاجة، وعلى سبيل الخبرة، الأطباء والأساتذة الجامعيّين والمستشار القانوني للنقابة. يشير القانون عينه في المادة 37 من الفصل الرابع، تحت عنوان «في التأديب»، إلى أنه «إذا خالف أيّ عضو من أعضاء النقابة، لبنانياً كان أم غير لبناني، واجبات مهنته، أو عرّض كرامته لما يمسّ شرفه أو استقامته أو كفاءته تطبّق بحقه إحدى العقوبات الآتية: «التنبيه، اللوم، التوقيف المؤقّت عن العمل لمدة لا تتجاوز الستة أشهر، وصولاً إلى المنع النهائي عن ممارسة المهنة».