أنسي الحاجاتهام حزب يمثّل طائفة سيتحوّل إلى اتهام طائفة. لبنان القائم على توازن الطوائف لا يتحمّل اتهام حزب يمثّل طائفة.
هذا ما أدركه متأخراً كمال جنبلاط بعد عزل الكتائب. وهذا ما أدركه صائب سلام في اليوم التالي لمجزرة صبرا وشاتيلا فوقف يبرّئ الكتائب والقوات.
صائب سلام، الذي يستسهل البعض الاستهزاء بقرنفلته وتصويره رجعيّاً، ارتفع بتلك التبرئة إلى مستوى البطولة الوطنيّة. لقد كان يعرف أكثر من غيره حقائق ما حصل في صبرا وشاتيلا، لكنّه عضّ على الجرح إنقاذاً للبلاد من المجهول. يمكن، وقد أمكن مع الأسف والعار، ملاحقة أحزاب علمانيّة كالحزب الشيوعي والحزب القومي وحتّى قتل زعمائهم، كما حصل لأنطون سعادة في بيروت ولفرج الله الحلو في دمشق، لأن الأحزاب العلمانيّة لا تُمثّل طوائف. ليست محظورات. تقوم القيامة احتجاجاً على اضطهادها وتبقى هذه القيامة في حدود الرأي والمعارضة السياسيّة ولا تُخلخل أركان المجتمع. هناك شيعة كثيرون ليسوا مؤيّدين لحزب الله ولا يتعاطفون معه بل ويناصبونه العداء. ولكنْ من سيعود يميّز بينهم وبين شيعة حزب الله إذا جُنّت البلاد مذهبيّاً وطائفيّاً؟ نحن هنا في صميم وضع عَبَثي لكنّه الواقع.
بين أخلاقيّة العدالة وأخلاقيّة الغفران، الأكثر واقعيّة هو الغفران. على افتراض العدالة عدالة. نحن مجتمع جاليات ملغومة تتلاعب بها أوطانها الخارجيّة حين تشاء، وهذا المجتمع يديره داخلياً تسامح الحكماء لا نصوص القانون. واللبنانيون الذين يراد لهم أن يعيشوا بتبادل حَذَر دائم يعرفون أن لا أحد يكترث لمصلحتهم لذلك هم أيضاً لا يثقون بأحد. وهم أيضاً لو استطاعوا لاستغلّوا الزعماء كما يستغلّهم الزعماء. واللبنانيون يعرفون أن هذه الطائفة أو تلك لا يحميها دفاعها عن نفسها بل دفاع الطوائف الأخرى عنها. هذا هو شرط التعايش.
■ ■ ■
لا يعفي هذا الواقع أحداً من مسؤوليّاته الأخلاقيّة والوطنيّة ولا يجعله فوق الشبهات ولا في منأى عن المحاسبة. ولا يعطيه رخصة للقتل. كائناً من كان ومهما بلغ حجم قوّته. لا محلّ لجبابرة في مواجهة أقزام. كلنا أقزام في لعبة أمم. القاسم المشترك بيننا ليس الدستور ولا المؤسسات بل إدراكنا أن مجتمعاً كمجتمعنا قد يسوسه الفساد ولكنْ يستحيل أن يحكمه طغيان.
نرسم هذا الواقع، تكراراً، بخجل وانهزام. لا نعرف إذا كان من حقنّا، بعد هذه العقود المدمّرة التي اجتاحت بلدنا، أن نتطلّع إلى يوم لا تعود فيه الأحزاب طائفيّة ولا الطوائف مضطرة إلى التماهي مع أي شخص فيها لمجرّد كونه يحمل هوّيتها. شخصيّاً لم يعد يعنيني كثيراً حلم كهذا لكنّي أحبّ أن أعتقد أن الاجيال الجديدة لم تستسلم ولن تستسلم إلى اليأس. ما أصغر أحلامنا.
و «أكبرها» اليوم أن يمرّ بسلام شبح المحكمة الدوليّة.
لن يقبل اللبنانيّون أيّ قرار ظنّي يتّهم زوراً وتلفيقاً جماعة من اللبنانيين. عندما نقول لن يقبل اللبنانيّون نقصد جميع اللبنانيين، وفي طليعتهم لا حزب الله بل الطوائف والأحزاب والأهالي الذين ينتمي إليهم رفيق الحريري وسائر الشهداء. لننتظر القرار الظنّي ولنتّكل على حسّ الواقع وحَدْس الحقيقة لدى الناس.
لن يقبل أولياء الدم بإلباس الجرائم لكباش محرقة. لا أولياء الدم ولا أولياء الضمير.
لا نريد أن نظلّ نبكي ونردّد ملعونة هذه الأرض، وأننا لا نعرف قيمة الحياة إلّا ونحن نموت. نرفض أن يظلّ يُعاقَب الأبرياء على جرائم المجرمين كما حصل في الجبل بعد اغتيال كمال جنبلاط وفي صبرا وشاتيلا بعد اغتيال بشير الجميّل. التعطّش ليس إلى الدم بل إلى ما يضع حدّاً لسفك الدم. وإذا تبيّن أن العدالة ستكون مستحيلة فلا بأس بتبادل الانحناء أمام العاصفة. لا الفتنة علاج ولا الحرب. ولا التسبّب بحالات تُبرّر تدخّلاً خارجيّاً. ما الغاية من التصعيد ومن التصرّف كأن كلّ شيء مسموح إلّا التسوية؟ إن الاتقاء من «عدوان» المحكمة على حزب الله يكون بجمع الكلمة الوطنيّة والطائفيّة حوله لا بتخويفه الآخرين ولا بتخويف الآخرين منه. والواجب يقع على الجميع. التضحية المجتمعيّة هي دائماً شراكة. تضحية ستكون في جوهرها شكليّة والأرجح غير صادقة الشعور، ولا بأس، لا بأس إطلاقاً. متى كان للصدق أهميّة في السياسة؟ نحن في حاجة إلى استعادة التوازن، والتوازن معادلة تقوم على التنازل، والتنازل أساسه الباطنيّة. لا بأس، لا بأس إطلاقاً ما دامت النتيجة هي السلامة. السلم الأهلي اللبناني حيلة لا عقيدة. شرّ لا بدّ منه. فلنتذكّر هذا كلّما أغرانا الغضب أو القهر. وليسالم بعضنا بعضاً مهما كلّفَنا ذلك من ازدواجيّة ورياء.
■ ■ ■
هذه دعوة في منتهى الجبن. لا بأس. لا بأس إطلاقاً. لو كان للبنانيين أجنحة لطاروا هاربين. هاربين من الحقيقة ومن العدالة. أكثر من أيّ حقبة منذ 1975 يتمنّى مئات الألوف من اللبنانيين لو كانوا هذه الساعة كهذا الغيم العابر. لقد نفدت منّا طاقات العيش بين فكّي كمّاشة الأرض الملعونة. الدم دمنا في الجهتين ولا من يتوقّف. صرنا من الهلهلة بحيث نتحمّل الجريمة ولا نتحمّل العقاب. لعلّها نهاية العالم أو لعلّه الفردوس المستعاد. سيّان. إلى متى سيظلّ اللبناني لا يخاف شيئاً ويخاف كلّ شيء، ويبتهج بالحياة يوماً ويغصّ بها حلقه دهراً؟ لا الجريمة مكافأة ولا العقاب.
لا نهاية العالم ولا الفردوس.
هذه دعوة إلى الجبن. ولا حاجة للقول إن الشجاعة تكمن أحياناً في أن نكون جبناء.

الباقي
عبارة تُطلّ على مجهولٍ أعمق منها.
عينان لا تعرفان كيف تقولان.
حافةٌ فوق حافة.
كاتبٌ لا يتعمَّد الإبهام ولكن لا يعرف أن يكمل:
نواقص يشكّل مجموعها آثاراً لا تضيع في النسيان لكنّها تُوسّع حدقة الشعور الباطن. تَرشَح، بدايةً، رشْحاً خفيفاً، ثم تغدو ينابيع صغيرة قبل أن تنهمر.

اللعبة
تحريك شعور الآخر بالذنب كوسيلة للحصول على حبّه.
الشفقة استدراراً للحبّ. اليهود بين عقدة إثارة الشفقة وهَوَس مصادرة مفاتيح السلطة بأهمّ أشكالها: المال والإعلام.
(مثل لعبة «يا طالعة يا نازلة» ولكن في اللحظة ذاتها لا بالتناوب).
المرأة التي، عفواً أو عمداً، تستثير العطف بالجانب الهش فيها، بالطفلة الداخلة إلى غابة ذئاب...
هل يكون حبّ الرجل للمرأة إلّا هذا؟ الرغبة الجنسيّة ألا تنشأ من جوع أنيابه إلى طراوة لحمها؟
وهل لحمها يهوى أن يُنْهَش مثلما تهوى الأنياب نهشه؟
إذا تساوت الرغبتان (الوحش والفريسة) التغى موضع الانزلاق إلى اللعبة. لا بدّ أن يكون، أن يظلّ هناك فرق بين المذنِب والمذنَب إليه لكي تستقيم اللعبة. فرق ولكن ليس بالضرورة غربة. أحياناً نلمس معالم شراكة أو تواطؤ. سرّ استمرار اللعبة يكمن في هذا التفاوت. التجاذب الذي إن لم يتقصّده عقلنا الواعي تََقَصَّدته الطبيعة.
اليهودي أكثر من يعرف هذه المعادلة.

ثورتها منها وفيها
صيغت الثورة الفرنسيّة، مؤسّسة الثورات الفكرية الوحشيّة، باسم ثلاثة شعارات: حرّية، مساواة إخاء. لا قبلها كان أسوأ منها ولا بعدها أفضل. التطوّر الحضاري ربّما كان يكون أسلم وأسرع لو بقيت (لو تبقى) الحريّة في معزل عن الثورات. حريّة فكر وتعبير ثورتها منها وفيها.
حريّة لا تتلطّخ بالدم بل تتشرّف بأن تجتاح الآفاق وتخرق الأعماق بكاريزما، إذا لا بدّ من إرهابٍ ما، كاريزما العبور الروحي، كاريزما الخَلْق والنَبْش والفتنة الجماليّة والنظرة التي تشيل.
حريّة الوحش الإلهي الذي يُعربد في الرأس عربدة الخمائر المتأجّجة قبيل أن تصبح كائنات. الوحش الإلهي الذي يُلطّخ يديه بالنور لا بالدم.