يبدو إعداد «الغمة» في البيوت في تراجع مستمر لشدة صعوبته، فاسم الطبخة مشتق من الغمّ الذي تجلبه لمن يجرّب طهوها! إلا أن بعض الطبّاخين يحاولون إعادتها إلى سوق المأكولات، ويؤسّسون لجيل من طبّاخي الطعام الشعبي الثقيل
محمد محسن
لا مبالغة في الحديث عن مشاكل زوجيّة تحدث بسبب طبخة «الغمّة» أو الكروش و»الأباوات». فهذه الأكلات الحامية والثقيلة، صعبة التحضير، فيما هي مطلوبة بكثرة. وربّما لأنها كذلك، تسمّى «مطلّقة السبع نسوان»، في إشارة إلى قصة شعبية متواترة، عن رجل طلّق سبع نساء على التوالي بعدما فشلن في إعداد وجبة «غمّة»! في أيامنا، تبدو هذه الطبخة الشعبية متّجهة نحو الانقراض، لولا بضع النسوة الـ«مضحيّات» وبعض المطاعم القليلة جداً التي تقدّمها. ومردّ الزهد فيها كما تقول بعض ربّات المنازل وبعض الطبّاخين المختصين، هو الحلول البديلة التي أمّنها النظام الغذائي الجديد، القائم على الوجبات السريعة. وكغيرها من الوجبات التراثية، تبدو الغمّة مثار جدل لا بسبب رائحتها النّفاذة أثناء الطهو فقط، بل بسبب «اشمئزاز» الكثيرين من أكلها، لأنها تحتل من جسم البقرة أو النعجة موقع البطن والأحشاء. حتى أنه يُشاع أنّ طهو الغمّة والفوارغ، باعتبارها أكلةً تراثية، في شوارع تركيا العامة، كان أحد موانع انضمام تلك الدولة إلى الاتحاد الأوروبي لأنه لا يراعي دفتر الشروط الصحيّة المفروضة في الاتحاد، علماً بأن حساء الغمّة أو أحشاء المواشي، معتمد نوعاً من الوجبات الشتويّة في كثير من أرياف الدول الأوروبيّة. ويتّسع انتشار هذه الطبخة وإن بأشكال مختلفة، في المغرب العربي حيث تُحشى بالخضار بدلاً من الأرز واللحم، أو في إيران حيث لها حشوة خاصة بها.
في البيوت اللبنانيّة عموماً، لا تزال الغمّة تطبخ، لكن بوتيرة منخفضة. نارها ومكوّناتها مكلفة. لكن هذه المعوّقات تتلاشى في بعض البيوت حيث تتبرع الجدّة بخبرتها وجهدها لإعدادها. أمّا في المطاعم، فهي غائبة عن لوائح الطعام، ومن يطلبها يشبه الباحث عن شيء من الماضي البعيد. في هذا السياق، تجربة الطبّاخ حسين العلي الوقوف عندها. فقد افتتح العلي مطعماً في الضاحية الجنوبية سمّاه «عذوقك» متخصصاً في «الغمّة والكروش والأبوات والمقادم والنيفا» حصرياً. فالخطوة، وإن أقدم عليها، مثّلت له مجازفة لأنها قد لا تكون «على ذوق» الجمهور الجديد، لكنّه يؤكّد «أردت افتتاح مطعم للغمّة بعدما رأيت اجتياح الأطعمة السريعة ساحة الطعام الشعبي». بعد الافتتاح، كانت المفاجأة، إذ سرعان ما لاحظ الطبّاخ أن «الطلب على الغمّة والكروش وراس النيفا لا يتوقّف، والزبائن يأتون إليّ من كل لبنان». فرحة حسين بفكرة مطعمه أقوى من متاعب طبخ الغمّة. يشرح ببرودة أعصاب، يبدو أن طبخ الغمّة عوّده عليها، ميزة هذه الطبخة التي «لا تؤكل إلا طازجة، لا مثلجة ولا بايتة، وهذا أحد أهم أسباب إقبال الزبائن عليها». مع شروق الشمس، وبدء توزيع اللحوم من المسالخ، يكون حسين قد نال حصّة مطعمه من «كروش» الذبائح. وتكمن الصعوبة الأكبر في عملية التنظيف التي تتم على 3 مراحل: الأولى هي إفراغ الكرشة من محتواها، والثانية تنظيف سطحها بالماء الساخن ويقال له «الحلي» وثالثها حشوها قبل نقلها إلى الطنجرة. يشير طبّاخ الغمّة إلى طريقة «حلي» غير صحية قد يستعملها بعض اللحامين أو حتى ربّات المنازل، وهي نزع الدهن عن سطح الغمّة، بواسطة مواد كالكلس أو البوتاسيوم «التي تؤذي ترسّباتها جسم الإنسان» كما يقول. الأمر ذاته ينسحب على تنظيف الفوارغ (الأمعاء الدقيقة للمواشي) والأبوات. الحشوة هي ذاتها: أرز ولحم وحمّص، إضافةً إلى أنواع عديدة من التوابل والبهارات لتطييب مرقها الذي يُبدَّل دورياً، وخصوصاً في المرحلتين الأولى والثانية من الغلي. طلاب هذه الأكلات التراثية كثر، معظمهم من الرجال والشباب الذين يأتون فرادى. أما السبب؟ فيردّه صاحب المطعم إلى أن «أسعار الوجبات مقبولة بالنسبة إلى الفرد، أمّا العائلات الكبيرة من ذوي الدخل المحدود فصعب عليها تناول وجبات الغمّة». ويشير العلي إلى أنّه يستهلك يومياً أكثر من 150 قطعة مقادم، و50 فارغاً (الفارغ يكفي لإعداد صحنين تقريباً)، وما بين 10 إلى 15 «كرشة» تطعم في حال طبخها مع الحشوة أكثر من 80 شخصاً. الطريف في الأمر، هو ما ينقله العلي عن بعض زبوناته اللواتي يحضرن بطناجر فارغة ويطلبن ملأها بوجبات الغمّة، لإيهام الأزواج بأنهن طبخنها بأنفسهن، أو للتباهي بهذه الطبخة في دعوات الغداء العائلية. هكذا، فرّج العلي هموم نسوة كثيرات ورجال كثر يشتاقون إليها ولا يجدونها متوافرة في المطاعم الأخرى، وقد لا تحسن زوجاتهم إعدادها. قال أحدهم وهو يخرج من المطعم بعد وجبة من العيار الثقيل «الله يرحمك يا إمي».