لا يزال التعذيب معتمَداً في مخافر لبنان خلال التحقيق مع مشتبه فيهم في أحداث مختلفة، رغم كل الندوات والمؤتمرات التي تقيمها قوى الأمن عن العدالة وحقوق الإنسان. أخيراً أحال قاضي التحقيق في البقاع على النيابة العامة عسكريَّين للاشتباه فيهما بتعذيب قاصرَين
محمد نزال
في خطوة تُسجَّل لمصلحة العدالة وحقوق الإنسان في لبنان، ولصورة المرفق القضائي، الذي يرى المتابعون أنها تضررت في الآونة الأخيرة نتيجة لبعض الممارسات «المسيئة»، أحال قاضي التحقيق في البقاع زياد مكّنا اثنين من رتباء التحقيق في قوى الأمن الداخلي على النيابة العامة الاستئنافيّة، لاتخاذ ما تراه الأخيرة مناسباً بشأن الادّعاء عليهما بأفعال جرمية مشتبه في حصولها. في أثناء تحقيق القاضي مع 4 مواطنين سوريين في قضية سرقة في البقاع، اثنان منهم من الأحداث، أي لم يبلغوا الـ 18 عاماً، أفاد أمامه الموقوفون أنهم تعرّضوا للتعذيب في المخفر الذي أُوقفوا فيه، وأنّ الإفادات التي أدلوا بها في التحقيقات الأوّلية انتُزعت منهم تحت وطأة الضرب. استدعى القاضي أحد الأطباء الشرعيّين وكلّفه بمعاينة الموقوفين، وذلك بعد 4 أيام على توقيفهم. أكّد الطبيب الشرعي في تقريره وجود آثار كدمات وآلام في أجسام كل الموقوفين، حصلت خلال فترة توقيفهم في المخفر. وبناءً على الإفادات الموضوعة أمامه، إضافةً إلى تقرير الطبيب، استدعى قاضي التحقيق العسكريَّين اللذين أجريا التحقيق الأوّليّ، وأجرى بينهما وبين الموقوفين مقابلات وجهاً لوجه، فأفاد الموقوفون أنّ العسكريَّين الواقفين قبالتهم هما اللذان تعرّضا لهم بالتعذيب في المخفر.
وبمتابعة التحقيق، تبيّن للقاضي أنّ العسكريَّين، وهما برتبة معاون أول، لم يطلبا من مندوب جمعية حماية الأحداث القدوم إلى المخفر لحضور التحقيق، نظراً إلى كون اثنين منهم دون الـ 18 عاماً، الأمر الذي يمثّل «إهمالاً في الواجبات الوظيفية». فبحسب المادة 34 من قانون حماية الأحداث، «يجب» على المسؤول أن «يتصل فوراً بالمندوب الاجتماعي المعتمَد، ويدعوه إلى حضور التحقيق، ولا يجوز البدء بالتحقيق ما لم يكن المندوب حاضراً تحت طائلة الملاحقة المسلكية». ويشار إلى أنه عند تعذّر حضور المندوب الاجتماعي، على النيابة العامة أو مصلحة الأحداث في وزارة العدل أن تعيّن مندوباً اجتماعياً ليحضر مع الحدث أثناء التحقيق. ويشير القانون المذكور إلى أنه «لا يُكتفَى فقط بحضور المندوب، بل يكون على هذا الأخير أن يباشر بحثاً اجتماعياً، ويقدّم نتائجه إلى من يُجري التحقيق مع الحدث».
محامٍ متابع للقضية رأى في إحالة رتيبي التحقيق على النيابة العامة الاستئنافية «قراراً جريئاً، وقد أصبح الأمر الآن في عهدة الأخيرة، التي يُفترض بها عدم المماطلة في الادّعاء على العسكريَّين للبدء بالتحقيق معهما، وعدم إعطاء المسؤولين السياسيين أو الأمنيين أيّ فرصة للتدخل في هذه القضية بغية التخفيف عن المشتبه فيهما، وذلك لأن صورة المرفق القضائي في لبنان باتت على المحكّ إزاء مثل هذه القضايا».

لا يجوز البدء بالتحقيق ما لم يكن مندوب الأحداث حاضراً
ويأتي قرار إحالة العسكريَّين على النيابة العامة منسجماً مع ما تنص عليه المادة 15 من اتفاقية مناهضة التعذيب، وغيرها من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية واللاإنسانية أو المهينة، التي انضم إليها لبنان بموجب القانون رقم 185 عام 2000، والتي بموجبها «تضمن كل دولة عدم الاستشهاد بأيّ أقوال يَثبت أنه جرى الإدلاء بها نتيجة للتعذيب، كدليل في أيّ إجراءات». واستناداً إلى هذا النص، فإن الدليل المنتزَع بنتيجة تعريض المشتبه فيه للتعذيب يكون مصيره الإهمال، علماً بأنّ ذلك لا يؤدّي بحد ذاته إلى إهمال الإجراءات الصحيحة التي جرت في معرض التحقيقات.
أحد المتابعين لمثل هذه القضايا لفت إلى أن النيابات العامة غالباً ما تقول إنها حاضرة للادّعاء على المشتبه فيهم بالتعذيب، شرط أن تُحال عليها مثل هذه القضايا، وذلك في معرض ردّها على سبب عدم وجود ادّعاءات من هذا النوع، علماً بأنّ العديد من منظمات المجتمع المدني تؤكّد أن «ظاهرة التعذيب في المخافر والسجون» ما زالت متفشّية. وعلى أي حال، فهذه القضية باتت أمام النيابة العامة الآن، والأيام القادمة كفيلة بإظهار ما ستؤول إليه.


3 سنوات على «الفروج»

قليلة هي الأحكام القضائية التي صدرت بحق «مرتكبي التعذيب» في مخافر لبنان، بل إنّها نادرة جداً، بحيث إنّه منذ عام 2007 يُفاخر بعض المسؤولين بما عُرف آنذاك بحكم «الفروج». فقد ثبت ارتكاب أحد العسكريّين للتعذيب بحق مواطن مصري بأسلوب «الفروج»، وهو أسلوب يُرفع فيه الشخص عن الأرض مكبّل اليدين والرجلين، ويوضع ثقله على عصا مثبّتة من الطرفين، ما يؤدّي إلى احتباس الدم في العروق، وإلى الشعور الحادّ بالألم، ويُصبح الشخص على هيئة «الفروج» الذي يُشوَى على النار.
حُكم آنذاك على العسكري بالسجن سنة واحدة، ثم خُفضت العقوبة إلى السجن 15 يوماً، وبتغريمه مبلغاً وقدره 300 ألف ليرة لبنانية، إضافةً إلى مبلغ 600 ألف ليرة يُدفع للمدّعي. وبغضّ النظر عن حجم العقوبة، فقد رأى كثير من الناشطين في مجال حقوق الإنسان آنذاك، أنّ القرار بحد ذاته يُعدّ إيجابياً جداً، وخطوة تُسجّل لمصلحة حقوق الإنسان في لبنان.