استيقظت المدينة باكراً على المونديال. الأعلام الأوروبية واللاتينية لوّنت المنازل قبل انطلاق الموعد. لكن هناك ما يعكّر الفرح: الرصاص. والشباب، الذين نقلوا ساحات التظاهر من رياض الصلح والشهداء، إلى البياتزا دي روما، والريو دي جانيرو، مخترقين بعدد كبير من المسكونين بلاوعي عنصري!
أحمد محسن
مارادونا أفضل لاعب في العالم لأنه كان مشاغباً. بيليه كان مهذباً وقد فاتته سلطة الكاميرات. لا يمكن رونالدينيو ورونالدو البرازيليَّين أن يكونا أفضل من ميسي الأرجنتيني. الأصفر باهت والأبيض أنقى. السامبا أصعب من التانغو. كل المقاربات لتفضيل لاتيني على آخر ممكنة. لكنها جميعها تسقط في أحد المقاهي المغمورة، في الضاحية الجنوبية لبيروت. الحديث هناك عن أبيض وأسود. كان هناك شابان «يحللان». وأصبحت الجملة بالنسبة إلى أحدهما، على الطريقة اللبنانية: بيليه يشبه الأفارقة، أما مارادونا فاحترف في أوروبا، ولا يمكن رونالدينيو ورونالدو «الأسوَدين» أن يكونا أفضل من ميسي «الأبيض». كان النقاش على مستوى من الجدية. طبعاً، في المقهى ذاته، بلاد كالكاميرون، وساحل العاج، فرقها محبوبة، لكن بمعايير محددة وواضحة، فالشتائم العنصرية مقبولة، كأنها مسوغة اجتماعياً. كأن معظم المشجعين ما زال خاضعاً لسطوة «الرجل الأبيض». في بلاد الطوائف، الحديث عن حساب على العنصرية نكتة سمجة. ثمة مشجع آخر، لم تفارق كلمة «أسود» فمه طوال فترة الثاني، علماً بأنه كان يشجّع الكاميرون. مشكلته مع اللون غير إرادية.
وبعيداً عن الألوان، يقول حسين محيو، أحد مدمني المونديال، إن للمشجعين خصائص تبرز على وجوههم وتصرفاتهم. قد يكون اختيارهم للفرق المشاركة بالمونديال غير عبثي إطلاقاً. قد تتزامن علاقتهم بكرة القدم مع موعد فوز أحد الفرق بالبطولة، وهذا أمر مفهوم. ربما كانوا يحبون في الأساس نمط عيش أحد الشعوب. برأي كاريل، الإيطاليون لهم نمط فريد مثلاً. ربيع يرى أن الألمان صلفون، وتلاحقهم لعنة النازية، رغم طلبهم من الدولة اللبنانية إزالة كل الأعلام المسيئة التي تحمل الصليب المعقوف السيئ الذكر. الفرنسيون رعاة العالم الفرنكوفوني العريض، لذلك تحبهم تاليا «القواتية». تستغرب أن فرنسا لا تضم لاعباً من أصول لبنانية، في خضم هذا العدد الهائل من المهاجرين في فريقها. البرازيليون فقراء. هبة تعشقهم. لا توافقها أمل، فالأخيرة تؤمن بأن رواتب اللاعبين البرازيليين تكفي لإعمار مدن الصفيح. في المحصلة، الجميع يزج السياسة والخلفية الثقافية في دفاعه عن خياره الرياضي. ولا يخلو الأمر من «شطحات» مرعبة. بعض المشجعين المتناثرين بين عين الرمانة والشيّاح يمدحون الفوهرر أكثر من زعمائهم السياسيين.
كل شيء ممكن في المونديال. المدينة الآن أشبه بمقهى كبير. والأصح، المقاهي الآن تعجّ بالمدن الصغيرة. الشباب وحدهم في الساحات اليوم. لا أحد يحرض الطائفة X على الطائفة Y. إسرائيل وسوريا وإيران وأميركا دول خارج حسابات كرة القدم. ليس من زعيم يخطب ليبتهجوا فيه بالقذائف الصاروخية، وليس من آخر يغفو على المنبر ليوقظوه بالرصاص. لكن الرصاص حاضر دائماً. فقد أصاب مواطناً في منطقة الشويفات. سقط تلفاز من الطابق الخامس على أوتوستراد السيد هادي نصر الله. سقط جريحان «أرجنتينيان» في برج البراجنة، لا في بيونس أيرس. ومساء أول من أمس، انبرى مشجع وفيّ، من بين الحشود، وأطلق النار. الرصاص هو «فوفوزيلا» اللبنانيين. وبدأت تخرج الشوارع ما بداخلها من تفاصيل: المفرقعات. فتّش عن المفرقعات.
هكذا، لا يصبح هروب أربعة لاعبين كوريين شماليين من القمع الأيديولوجي إلى أفريقيا مستهجَناً. نحنُ هنا أمام شعب بكامله يهرب على أرضه... ويقذف بعضاً من عنصريته خلف الشاشات.


احتفالات صاخبة في الضاحية

يشهد أوتوستراد هادي نصر الله، في الضاحية الجنوبية لبيروت، تجمعاً شبابياً حاشداً، تزامناً مع انتهاء المباريات المسائية، وخصوصاً في مباريات المنتخب البرازيلي. وخلال هذه التجمعات، يطلق المحتفلون المفرقعات النارية حتى ساعة متأخرة من الليل، بعد أن يتجمعوا تحت جسر الحازمية الجديد. وبدا لافتاً أن احتفالات أول من أمس، شهدت حضور بعض العناصر «اللطيفة» للاحتفال، إذ شاركت بعض الصبايا في التجمعات. إلى ذلك، يبدي عدد كبير من سكان المنطقة استياءهم من غياب القوى الأمنية، فيما يستمر المشجعون بالضجيج حتى ساعات متأخرة ليلاً، غير آبهين بطبيعة المناطق السكنية التي يحتفلون بها. أحد الشبان المشاركين في الاحتفالات دورياً، توقّع أن تتطور هذه التجمعات إلى إشكالات، في الأدوار التالية.