بعد إعداد دام ستة أشهر، وبعد دعوات وجّهت عبر البريد الإلكتروني والفايسبوك، خرج الفلسطينيون أمس من مخيماتهم للمشاركة في مسيرة طالبت بحقوقهم؛ حق تملّك مأوى وحق العمل من دون أن يهانوا
قاسم س. قاسم
فجأة، من بين كل المتظاهرين المشاركين في مسيرة «الحقوق المدنية والاجتماعية لللاجئين الفلسطينيين في لبنان» أمس، تعلق العين بوجه واحد يبدو مألوفاً. لكن؟ أليس هذا سيلفاتوري لومباردو مدير وكالة الأونروا في لبنان؟ بلى. تقترب أكثر للتأكد من الشخص، فقد اعتدت أن تراه بالبذلة الرسمية. لكنّ لومباردو لم يكن هنا بتلك الصفة، فقد أتى يدفع أمامه عربة طفلته التي لم تتجاوز أربع سنوات وبقربه زوجته، وهو هنا بصفة حرص على التأكيد أنها «شخصية»، وامتنع عن الرد على أسئلة «الأخبار». كان يمكن النواب المعترضين على إعطاء الحقوق الاجتماعية للاجئين أن يتمثلوا بلومباردو إن أرادوا، أو بأدنى حدّ كان بإمكانهم أن يتابعوا على الشاشات حوالى 4500 فلسطيني ولبناني أتوا للمطالبة بحقوق اللاجئين الممنوعة. لكنهم لم يكونوا هنا بالطبع. كان هناك مواطنون لبنانيون أتوا بدلاً من «ممثّلي الشعب» لكي يقولوا «ليس باسمنا» حرمان اللاجئين من حقوقهم.
انطلقت المسيرة، ولكن ركوباً،» لأسباب أمنية»، من مختلف مخيمات لبنان باتجاه المدينة الرياضية وموقف الكرنتينا، ومنهما سار المشاركون إلى ساحة جبران، التي قدموا إليها ليوجهوا مذكرة تطالب بإقرار الحقوق المدنية للاجئين إلى الأمين العام للمجلس النيابي عدنان الضاهر، ليرفعها لاحقاً إلى رئاسة المجلس. المسيرة التي انطلقت في «عزّ الظهر» طغت عليها مشاركة شبابية فلسطينية، دليل تأثر هذه الفئة أكثر من غيرها بغياب هذه الحقوق، وخصوصاً حقَّي العمل والتملّك. ساروا رجالاً ونساءً تحت الشمس، كأنه منذ رواية غسان كنفاني لم يتغيّر شيء. «منعرف إنكم تعبتوا بس طريق إقرار حقوقنا متعبة»، يقول أحد «الهتيفة». أعلام الفصائل الفلسطينية غير موجودة: لا رايات لفتح ولا لحماس، لا جبهة شعبية ولا قيادة عامة. فقط علمان خفقا كقلوب المتظاهرين في فضاء بيروت: اللبناني والفلسطيني. غياب أعلام الفصائل لم يغيّب الانقسامات الموجودة في ما بينها عن جو المسيرة. ففي المخيمات انتشر خبر أن المسيرة لن تنطلق من المدينة الرياضية وستبقى هناك. شائعات عدّها ساري حنفي، أحد منظّمي المسيرة، أنها «تهدف إلى ضرب النشاط». على طول الطريق لم تهدأ حناجر المشاركين الذين رددوا «بدي عيش بكرامة/ بدي إحيا وما إنهان/ فلسطيني عالي الهامة/ يا عالم أنا إنسان». عند جسر سليم سلام انهال الأرزّ عليهم من على شرفات المباني المجاورة. تعب المشاركون قليلاً «لأنو في طلعة». في ساحة جبران، انتظرهم أبناء مخيمات الشمال والبقاع. في ساحة الإسكوا يبدأ النشاط الخطابي. يلقي عضو مجلس قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي بهاء أبو كروم كلمة النائب وليد جنبلاط، وقال إن «نواب كتلة اللقاء سيستمرون بمتابعة هذه الحقوق إلى النهاية»، مؤكداً أن الكتلة «كانت على اتصال مع مختلف الكتل النيابية قبل طرح مشاريع القوانين، فهي لم تطرح فجأة. وصفة المعجل كانت من أجل عدم ضياع مشاريع القوانين على الطريق بين مجلس النواب ومجلس الوزراء». ثم وجهت لويزا مارتيني نائبة رئيس البرلمان الأوروبي السابقة كلمة مسجلة قالت فيها إن المسيرة «لتأكيد العيش بكرامة»، عارضة مأساة قرية نعلين التي «يتساقط فيها الشهداء من أجل أرضهم». وألقى د. ساري حنفي كلمة المفكر عزمي بشارة الذي انتقد في كلمته كيفية صنع «الآخر الفلسطيني الذي يستخدم في صناعة هوية داخلية».
عزمي بشارة انتقد صناعة الآخر الفلسطيني المستخدم في صناعة هوية داخلية
ورأى ممثّل منظمة التحرير في لبنان عبد الله عبد الله أن «إقرار الحقوق لا يلغي تمسّكنا بحق العودة، ولن يؤثر على البنية التركيبية للمجتمع اللبناني. فنحن لا نطالب بوظيفة حكومية». من جهته، قال مسؤول الجبهة الديموقراطية في لبنان علي فيصل إن «الشعب الفلسطيني شعب يستحق الحياة». وقد وجّه ممثل الحزب الشيوعي نديم علاء الدين دعوة إلى التظاهر في 5 تموز أمام المجلس النيابي، وذلك خلال جلسة الهيئة العامة المقبلة. ورأى مسؤول الجبهة الشعبية في لبنان مروان عبد العال أن معاملة الفلسطيني بكرامة «هي الضمانة كي لا تذوب الهوية الفلسطينية، ليبقى هناك مطالباً بحق العودة»، رافضاً «تحويل الفلسطيني إلى رقم أمني أو متسوّل على أبواب مكاتب الإغاثة». من جهته، قال أمين سر فتح في لبنان فتحي أبو العردات إن «من يريد حق العودة عليه تحسين وضع المخيمات». تنتهي الخطابات، تسلمك المذكرة، يعود بعض اللاجئين إلى مخيماتهم البعيدة، يبقى آخرون لمشاهدة العروض الفنية. هكذا، بعد إعداد ستة أشهر يقول المنظّمون إنهم راضون عن أعداد المشاركين التي وصلت بحسبهم إلى 4500 شخص، بينما قالت القوى الأمنية إن الأعداد تراوحت بين 3500 و4 آلاف. وفي مخيمي البارد والبداوي كان لتحرك الفلسطينيين نكهة خاصة. صباح الأحد، وهو يوم عمل عادي هنا، لأن طبيعة الأعمال لا تحتمل التمييز بين أول الأسبوع ووسطه ونهايته، خلت الأزقة من الحركة الاعتيادية وأقفلت أبواب المحال والدكاكين البسيطة، واقتصر المشهد على تجمعات متفرقة راحت تتقاطر من الزواريب لتلتقي في محطة سرحان وسط المخيم، حيث تجمعت الباصات لنقل المشاركين في مسيرة الحقوق نحو البرلمان اللبناني. «البهائم لا تعيش في براكسات البارد»، بهذه العبارة ميّز أبو نجيب درويش دوافع تحرك فلسطينيي الشمال. وأضاف «وإذا كان أحد النواب الأفاضل وهو محام بارع، وأعني به النائب بطرس حرب، فصّل بين الحقوق الإنسانية والمدنية، موافقاً على الأولى ورافضاً الثانية، فإنني أطالبه بأقل من الحقوق الإنسانية، وليسمح سعادته بإرسال وفد من لجنة «للرفق بالحيوان» لينظر في واقع الفلسطينيين في مخيم نهر البارد، حيث لا يعامل الفلسطينيون كبشر». بالقرب من الباص الرقم 1 وقف عمار يوزباشي، أحد منسّقي المسيرة. يقول إن هذا النشاط «خطوة أولى ستتبعها خطوات. فلأول مرة، ما يزيد على 130 مؤسسة فلسطينية ولبنانية تحت راية العلمين اللبناني والفلسطيني ستشارك في مسيرة حقوق اللاجئين المدنية». وقال «كنا نسعى لنجعل المسيرة مهرجاناً حضارياً أسوة بما يجري في ريو دي جنيرو وغيرها، لكنّ الإجراءات الأمنية حالت دون ذلك».
قرابة العاشرة امتلأت ساحة المحطة بالمشاركين، وبدأ كل منهم يدلي بدلوه حتى من دون سؤاله. «نحن لاجئون، يقول الحاج أبو أيمن «أعطونا ما يسدّ الرمق إذا كنتم لا تريدوننا أن نعمل». أبو حسن، يحمل جنسية دنماركية لكنّ بناته يسكنّ المخيم، ومع ذلك «فأنا لا أتضامن مع بناتي فقط، بل مع هذا الشعب الذي تعطيه كل الدول حقوقه المدنية إلا لبنان، يحرمه أبسط مقوّمات الحياة».
ورغم الإجماع الحاسم على موضوع الحقوق المدنية، إلا أن ثمة يأساً من إمكان إحراز الشيء الكثير، لكن «يكفينا أن نوفّر بعض الحقوق»، يقول أيسر حسن «فنحن في مخيم البداوي، دهانين ومبلّطين أو مليّسين، نقدّر وضع الدولة اللبنانية ولا نطالب لأنفسنا بل لأولادنا الذين لا مستقبل لهم. فلا الحراك في سبيل العودة مفتوح، ولا إمكانية للهجرة إلى الخارج، ولا مجال للعيش الكريم هنا؟
غير أن أبو لؤي أركان بدر، مسؤول الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين في مخيم البداوي، يثق ببعض النواب التقدميين، كما يثق بالبلد الذي «قاوم العدو الصهيوني ولا يزال يرسل سفن الحرية»، لذلك يطالب بعدم النظر إلى الفلسطينيين بوصفهم طائفة، فنحن «طائفة العودة إلى فلسطين بموجب القرار الدولي 194».
وفي صيدا، أبلغ فؤاد عثمان، أحد منسّقي التظاهرة، «الأخبار» أن «سلطات الأمن اللبنانية لم توافق على إعطائنا إذناً للانطلاق سيراً من ساحة الشهداء في صيدا إلى بيروت، وأبلغنا بضرورة ركوب الحافلات». مشاركة الكبار في السن كانت لافتة، حسب ما رأينا داخل الباصات. أمر بررته ابتسام العوض بالقول «لكي لا يوقف الشبان عند حواجز الجيش»، بينما أبو محمود قدورة بدا غير متفائل «عمي هذه التحركات لن تقدم ولن تؤخر ولن يُعطى اللاجئون حقوقهم، لأن الدول الكبيرة تتآمر علينا والقيادات الفلسطينية تعمل لمصلحتها، لكن لابأس بمحاولة رفع صوتنا». جارته في الباص تنفعل بعد رواية بعض المشاركين لمعاناتهم قائلة «شو مفكرينا طمعانين بوطنكم، حبة تراب من فلسطين بتساوي الدنيي كلها». وفي شتورا اعتصم عشرات الفلسطينيين في ساحة شتورا للمطالبة بالحقوق المدنية والإنسانية. هذه الخطوة جاءت محطة قبل التوجه ضمن مسيرة الحقوق المدنية إلى مجلس النواب اللبناني في بيروت. وتحدث باسم المعتصمين رئيس اتحاد الشباب الديموقراطي الفلسطيني في لبنان وائل صالح، وقال «لبنان الذي أعطى الكثير لأجل فلسطين، لا يمكن أن يتناسب تاريخه مع القوانين التي تحرم هؤلاء اللاجئين أبسط حقوقهم».
(شارك في التغطية روبير عبدالله، خالد الغربي، أسامة القادري)