الحديث الآن، ليس عن حقوق تؤخذ بالقوة، أو بالتظاهر السلمي. الحديث هو عن مجزرة صامتة مستمرة منذ 62 عاماً. المناداة بحقوق فلسطينية اجتماعية يمثل دعوة لوقف القتل ليس أكثر. فالفلسطينيون أيضاً، يحبون الحياة متى استطاعوا إليها سبيلاً
أحمد محسن
اسمي ياسر، وأنا من المخيّم. اسمي ياسر، أو أحمد، أو قاسم، أو ربيع، أو محمد، لا فرق. أنا صورة عن آلاف الذاهلين من شدة القهر، وكثرة الموت عندنا. أشعر بأني آلة مبرمجة على التنفس. المدينة ـــــ الممنوعة ـــــ وحش تزدحم فيه الملوثات. الباطون حلمٌ جميل. نحن هنا نشتهي الجدران. الزينكو جاف وحارق. لا يخيفنا التقاء المطر بالمطر، فقد قلصوا أحلامنا الرخوة بلا رحمة. أشعر بأني آلة تشبه رجلاً. آلة للاستعمال السياسي اليومي. الطعام هنا كالوقود، بلا طعم وبلا رائحة. حاصروا أبي في الحرب. أطعمونا لحم القطط. حاصروا مستشفى حيفا أيضاً. تعطلت جثث أقربائي الميتة. الألم عطل متكرر. حياتنا معطلة منذ 62 عاماً. السوائل هنا زيوت لتشحيم الكبد. لا أحد يسأل عن عطش «الغرباء». الكتابة لأجلنا بمثابة الصيانة الدورية الفاشلة. ولا نصرخ لأننا نكاد أن نصدأ. ولا نعترض لأننا مرتبطون بسلسلة المحاور المبتعدة عن ظلالنا. الدخول إلى الجنة نجاتنا الوحيدة. الخيار في المخيّم ليس صعباً: الموت أو الموت. أخشى ابتعاد العودة. أخشى الانتهاء بلا قبر. ممنوعون حتى من الدفن، ومن زيارة الأبدية.
من تقصد بالمجرمين؟ أولادنا على الدراجات في الأزقة؟
لا نختلف كثيراً عن الروبوتات. عيوننا صحون لاقطة مصوبة نحو السقوف. السقوف أعمدة إرسال مستطيلة. عيوننا آخذة في الاتساع في سباق مع الفضائيات التي تنهشنا حيناً وتستثمرنا أحياناً. الشعر تلفاز معطّل. شعورنا رغم كل شيء، سوداء تماماً. لم نشِب بعد. لم تبيضّ أجزاؤنا. لا يمكن القول إن عكا مجرد ذاكرة. الذاكرة أسود وأبيض. والأبيض لون مؤجل. نحن سنرجع. أنوفنا كراسٍ متحركة. مكانها ليس ثابتاً. تقفز أحياناً إلى اليدين قبل الأعضاء الأخرى. ثمة رائحة يأس عاصفة. أيدينا أسلاك شائكة. مفصولة عن الكوكب. ممنوعون من العمل. «النوكيا» أفضل حالاً من أصابعنا. أفواهنا ليست خضراء، لكنها كجهاز الرسائل القصيرة «أم أس أن»، وفي أحسن الأحوال «فايسبوك». لولا التكنولوجيا لتحول الغيتو إلى صحراء. اللسان ليس حصاناً ولا أي حيوان آخر. اللسان في حالتنا، هو اللسان: زمور إسعاف، مكبر صوت يدعو إلى جنازة، أو مايكروفون يشدو في حفلةٍ خطابية فارغة. الأعناق تماثيل رخامية صلبة. تماثيل موتنا المقبل. الرقاب مُحناة دائماً. يحاولون تصويرها كذلك. الصدر صالون استقبال النفس الأخير. بقية الجسد هي بقية الموت.
إذا صرخنا، الفلسطينيون بلا حقوق، فسيقفز فاشيٌ جديد ويعلن: اللبنانيون بلا حقوق أيضاً. المطلوب هو قهر الفلسطينيين حتى يستعيد اللبنانيين حقوقهم. المطلوب قطع الأوكسيجين عن عين الحلوة حتى يتنفس الناس في الرابية والشياح وطريق الجديدة وعين الرمانة. المطلوب منع الفلسطينيين من العمل بشهاداتهم الأكاديمية والمهنية، حتى يفاخر بعض المرضى النفسيين بتعدد اللغات الاستعراضي. المطلوب هو إبقاء الفلسطينيين مشردين في شوارع المنافي حتى ينعم البرلمان اللبناني بتفاقم العار. وإذا سألنا عن ذنبنا في مذابح المذاهب، قفزت فاشيةٌ جديدة وأعلنت: مخيماتكم تؤوي المجرمين. من تقصد؟ المسنون القابضون على مفاتيح المنازل القديمة؟ الأطفال على الدراجات الهوائية المزدحمة في رحم الأزقة؟ الآباء الذين يشيخون خلف أعمارهم؟ فلنقل إنها سذاجة الفاشيين. سذاجة اتساع المجزرة الصامتة. يحاكم القتلة بعد المجازر عادةً، ولو طال الزمن. في ساراييفو فُضح كل شيء: المقابر والجثث والأطفال إلى جانب الأمهات في أسرّة الأبدية. إسرائيل نفسها قامت على أنقاض أوشفتز وتعدّ ياد فاشيم تاريخها الأول. في يريفيان نشأت دولة قرب بحيرة سيفان بعد زوال السفاحين. في سايغون أعدم الجلاد المدرع بالدبابات. في كل مكان عوقب القاتل، إلا هنا، حيث تمتد مساحة صبرا وشاتيلا فوق المخيمات رويداً رويداً. وماذا نفعل؟ نتظاهر اليوم. التظاهر من أجل الحقوق البديهية أمرٌ غريب فعلاً. يمكن أن يكون التظاهر الجماعي مفهوماً للمطالبة بخفض الضرائب مثلاً، أو للتعبير عن رؤى نقابية محقة، أو لتسجيل موقف سياسي معين. لكن أن يتظاهر شعب بكامله من أجل الحياة وحسب، أمرٌ غير طبيعي أبداً.
الفلسطينيون يتظاهرون اليوم، كي يتوقف موتهم. لا يطلبون أكثر من ذلك. حتى الحياة لا يطلبوها من أحد. كل ما يطلبونه هو التوقف عن قتلهم. يمكن أن تبدأ جوقة الفاشية بالتلويح بالتوطين كالمعتاد. وإذا سكتت الأفواه الدميمة، فعلى الأرجح ستكثر الآذان الصماء بانتظار التسويات المجحفة دائماً. يا جماعة، من له برتقالة في يافا، لن يبادلها بلبنان كله. وهذا ليس تنظيراً. انظروا في عيونهم. اسمعوهم حين يتكلمون. زوروا أماكن عيشهم. كلوا من طعامهم. فلسطين حية ترزق في قلوبهم ولا شيء سواها. قد تكون فلسطين تجارة رابحة للمطلين على الشاشات بربطات العنق البغيضة، ومادة دسمة للسياسيين اللبنانيين المتسابقين على مقاعد البلدية، لكن ليس في قلوب أبنائها. فلسطين أُمّ يا جماعة.