وسام كنعان
قدر نجيب نصير الدائم كان الترحال والعبور. من حفيف سنابل القمح وبياض القطن في المناطق الشرقية، إلى غموض البحر وأسراب النوارس المهاجرة، وصولاً إلى بوّابات دمشق السبع التي عرفها الكاتب والسيناريست السوري جيداً بكل حارة من حاراتها وشوارعها. والده كان موظفاً في دائرة الأرصاد الجوية. لذا كان عليه أن ينصاع مع العائلة لتنقّلاته الدائمة. ارتبطت كل مدينة وطئها بمرحلة حرجة من تاريخ سوريا.
محافظة دير الزور ارتبطت لدى نجيب الطفل بذكرى انفصال «الجمهورية العربيّة المتحدة» عام 1961. «ركبت الحافلة مع عائلتي وذهبنا إلى محافظة دير الزور لأرى الجسر المعلّق فوق نهر الفرات للمرة الأولى. حتى اليوم، تذكِّرني رؤيته بالانفصال، لأننا وصلنا إليه في اليوم نفسه لذلك الإعلان التاريخي» يقول. نتيجة الأوضاع الأمنية ومنع التجوال، استقبلتهم إحدى عائلات المحافظة ريثما تدبّر والده أمر سكنهم، لتتوالى الرحلات إلى البوكمال وصافيتا والحسكة. في هذه الأخيرة، تعلّم نصير كيف يكون للآخر شخصيته ومعتقداته المختلفة. كان يسمع في باحة مدرسته أكثر من عشر لغات مختلفة. «كنّا في المدرسة نشبه منظمة الأمم المتحدة من عرب وأشوريّين وأرمن ويعقوبيّين ونساطرة وشركس ويزيديّين... وغير ذلك الكثير من الطوائف والأديان والجنسيات التي كانت تتعايش بطريقة مختلفة، تعلّمت أن أقبل الآخر كما هو، وأن أحترمه كما هو». في إحدى ليالي 1969، استيقظ نجيب مع أفراد عائلته ليجدوا حارتهم في محافظة الحسكة خاوية. لقد هاجر كل سكانها السريان دفعةً واحدة إلى... السويد!
المسافات الشاسعة، وحقولها التي تكتسي بألوان مختلفة نتيجة تقلبات الطقس والعواصف الرملية، كوّنت لدى الفتى الناشئ ذاكرة بصرية غنيّة لا تفارقه. أجمل ذكرياته رؤية التلفزيون للمرة الأولى في كاراج حلب، وهو يرافق عائلته في إحدى سفراتها. خطفه الصندوق السحري وجعله يتسمّر أمامه وقتاً طويلاً. شدّته الصور العجيبة في تلك السينما المصغّرة التي يمكن أن يصطحبها إلى البيت! لم يكسر انسجامه سوى توبيخ والده الذي بحث عنه في كلّ مكان.
في الحسكة، تكوّن وعي صاحب «زمن العار»، وبدأ الاهتمام بالجانب الثقافي. فقد جذب انتباهه الفنان التشكيلي عمر حمدي، وهو يرسم لوحاته على ضفة النهر... بينما حضر في «المركز الثقافي العربي» أول محاضرة في حياته، وكانت عن عبد الوهاب البياتي. كان يوفّر مع أخيه من مصروفهما اليومي ليشتريا مجلات مثل «المصوّر» و«آخر ساعة»، لتفاجئهما صفحات المجلة بأنّها لا تضيف شيئاً إلى العناوين. راح يواظب على قراءة مجلة «الأسبوع العربي»، وتكوّن حلمه الأول بأن يصبح صحافياً.
عندما توفي جمال عبد الناصر، كانت محافظة الحسكة تستعد لجنازة رمزية للزعيم الراحل. يتذكر الكاتب السوري عابر سبيل سأل عن سبب كل تلك الصور، وإذا كان صاحبها سيزور الحسكة! فانهالت عليه الشتائم ونشبت معركة كبيرة في المكان. الانفصال ورحيل عبد الناصر حدثان أثّرا في نجيب نصير، لكن هزيمة عام 1967 لا تزال حاضرة في ذهنه كأنّها حدثت أمس. يرى أنها كانت الشرارة الأساسيّة لحراك ثقافي ناشط في سوريا.
مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، بدأ كاتب المستقبل يتحرّر أكثر. في مدينة دمشق، تعرّف إلى السينما والمسرح، وقرأ الصحف... لكنّه كان يمارس كل تلك الطقوس من دون علم أهله. «كنت أخرج من البيت بأية حجة، وأقطع الطريق ركضاً إلى السينما، حتى إنّني كنت أراقب سرعتي في الجري، وأراها تتحسّن يوماً بعد آخر. كثيراً ما كنت أكتشف أنني دخلت لأشاهد الفيلم نفسه الذي شاهدته بالأمس».
رواية الكاتب الروسي نيكولاي أوستروفسكي «كيف سقينا الفولاذ»، كانت أول كتاب قرأه نصير، ليصبح الكتاب في ما بعد رفيقاً لا يملّ منه. طه حسين، وصادق جلال العظم، ونزار قباني، وأدونيس هم أكثر من تأثّر بهم. في مراحل دراسته الثانوية، بدأت مرحلة جديدة من الاهتمام بالسياسة في بيئة سمحت بالتنوّع السياسي. رغم ميله إلى الماركسية وشعوره بأنّه قريب منها، فإنه عشق أنطون سعادة... ومنذ ذلك الوقت وهو ينتمي إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي» بفكره. لكنه لم يعد ملتزماً تنظيمياً الآن. إلّا أنّه ما زال يؤمن بأنّ إسرائيل كيان ذاهب إلى الزوال لا محال.
في جانب آخر، وحده الموت يمكن أن يُنسيه عشقه لفتاة من دين مختلف. ما زال يتذكّر كيف اتخذا قرار ارتباطهما في إحدى ليالي شتاء السبعينيات خلف «كلية الهندسة المدنية» في دمشق... لكنّ العلاقة انهارت في لحظة جبن. وبعد خدمة العلم مثُل أمامه حلمه القديم بالعمل في الصحافة. متخرّج معهد الهندسة، انكبّ على الكتابة خمس سنوات من دون أن تنشر له أيّ جريدة حرفاً واحداً مما يكتب. ذات يوم، فهم أنّه كي يشقّ طريقه، لا بدّ من أن يمتلك شبكة علاقات جيدة...
بعدها قصد «مؤسسة السينما السورية» ليتعرّف إلى صنّاع الفن السابع. هناك، التقى أستاذه وشريكه في ما بعد حسن سامي يوسف، الذي كان في مرحلة عزوف عن الكتابة. بعد نقاشات طويلة، سيكتشف الاثنان أنّه يمكنهما أن يصنعا حياة بشروطهما، فأسّسا واحدة من أهم وُرش السيناريو في سوريا والوطن العربي. لينكفئ حلمه في الصحافة، ويبرع كسيناريست قدّم مع شريكه أهمّ أعمال الدراما السورية من «نساء صغيرات» إلى «أسرار المدينة» و«حكاية خريف»، ومن ثم «أيامنا الحلوة» و«الانتظار» وأخيراً «زمن العار». نسأله عن الجوائز، وخصوصاً «جائزة مؤسسة دبي للإعلام»، التي نالها عن مسلسله «زمن العار»، يصمت قليلاً ثم يقول إنّ ذلك آخر ما يفكر فيه... بل إنّ الموضوع لا يعني له شيئاً، ويضيف: «وخصوصاً جوائز الخليج العربي». يعكف نجيب نصير اليوم على كتابة نص جديد عن دمشق وسكانها وعطبها في هذا الزمن. يراهم في نصه مجموعة صعاليك يعتاش بعضهم على البعض الآخر من دون أيّ نتاج يذكر. إنّها المرة الأولى التي يبيع فيها نصه قبل إنجازه، ويجزم بأنها ستكون الأخيرة. فهذا السيناريست لا يعرف كيف يسلِّم عمله في وقت محدد.


5 تواريخ

1958
الولادة في دمشق

1977
انتمى إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي»

1997
أنجز أول سيناريو له بشراكة حسن سامي يوسف بعنوان «نساء صغيرات»

2009
أنجز نص مسلسل «زمن العار» مع حسن سامي يوسف. وحاز «جائزة أدونيا» في سوريا و«جائزة مؤسسة دبي للإعلام»

2010
يضع اللمسات الأخيرة على سيناريو تلفزيوني جديد يحكي عن دمشق المعاصرة