أنتجت الانتخابات الأخيرة مجالس بلدية جديدة أطلقت الكثير من الوعود، لكن السؤال المطروح هو قدرة هذه المجالس على تحقيق التنمية التي نادت بها؟ الباحث في علم اجتماع التنمية المحلية الدكتور أحمد البعلبكي يربط هذا الأمر بشرطين: سياسة وطنية للتنمية وكفاءات محلية
عامر ملاعب
انتهت الانتخابات البلدية، وعدنا بالحديث إلى ما قبل 2 أيار 2010، تاريخ المرحلة الأولى من الاستحقاق البلدي. النقاش حول التنمية لا يزال على حاله، فالمشكلة غير مرتبطة فقط بدخول عناصر جديدة إلى السلطات المحلية، أو ملء شواغر المجالس المنحلة. هي سياسة عامة يفترض بالدولة أن تتصدّى لها لكي تنجح البلديات في مهماتها وتمارس صلاحياتها كاملة.
هذا ما يخلص إليه محاوِر الباحث في علم اجتماع التنمية المحليّة، الدكتور أحمد بعلبكي. هو الذي ينظر إلى العمل البلدي في إطار سلة متكاملة تبدأ بالسياسة الوطنية وتنتهي باختيار أعضاء المجالس البلدية الأكفاء. يفترض الأمر طبعاً إعادة نظر بقانون البلديات، والصيغ المعتمدة لإنشائها وتوزيع مواردها.
يبدأ بعلبكي حديثه من التنمية، التي يرى أن الكلام عنها وعن النموّ الاقتصادي لا ينفكّ يتزايد في الدول المتقدّمة والنامية على السواء، «لكن الإكثار منه لا يعني التوافق على مضامين هذين المفهومين، وخصوصاً أنها ترتبط بالتنازع بين الطبقات التي تسيطر على الموارد والثروة والسلطة من جهة، وبين الفئات والطبقات التي تُحرم منها من جهة أخرى. وهذا هو الهدف الرئيسي والحقيقي لفكرة إنشاء الإدارات المحلية من بلديات ومؤسسات تعنى بالتنمية المحلية، التي عليها نظرياً أن تعمل على توزيع الموارد وتنظيمها بين الناس».
الدم الجديد في البلديات لا يكفي في غياب سياسة وطنية شاملة
بناءً على هذه المقاربة، يرى بعلبكي أن «مفهوم التنمية بات يحمل الكثير من الأدلجة بحسب الجهة التي تتبناه. التنمية ليست مسألة تقنية فقط، بل تتطلب خيارات سياسية واجتماعية ولها شروط محدّدة مثل الاستثمار الأفضل للموارد الطبيعية والبشرية والاجتماعية وكيفية استخدام المؤسسات استخداماً أفضل، إضافة إلى توافر الجدوى الاقتصادية الاجتماعية لهذا الاستثمار». أما أهم تلك الشروط، فهي ما يسميه بعلبكي «اقتصاد الحجم، أي النطاق الصالح للتنمية، الذي يجب ألا يكون موسّعاً إلى درجة فضفاضة، أو ضيقاً إلى حد فقدانه القدرة على الفعل، بمعنى أوضح أن يكون النطاق الأهلي البشري قادراً على القيام بما يحتاج إليه من التنمية». وهنا نصل إلى بيت القصيد: «التقسيمات الإدارية للنطاق البلدي». يقترح بعلبكي أن يضمّ النطاق البلدي ما يعادل نحو 20 ألف شخص حداً أدنى. وينطلق في شرح وجهة نظره من «وجود تغييرات عميقة في المفاهيم والعادات والتقاليد. فمن جهة خرج المواطنون من مكان مولدهم إلى رحاب أوسع، ومن جهة ثانية يشجع نموّ سوق العمل والتواصل على الدفع نحو توسّع المجتمعات المحلية، على أن يراعى في التقسيمات الجديدة التمدّد والسياق التواصلي بين القرى والمدن كي لا يغتصب القانون الإداري الواقع الديموغرافي ويقطعه اجتماعياً. أي أن يكون القانون والتقسيم الاداري إنسانياً يساهم في وصل السكان ووحداتهم السكنية في ما بينها».
اقتراح بعلبكي هذا ينطلق من مقاربة للواقع اللبناني، مقدّماً بعض الأمثلة عن مجموعة قرى في جبل لبنان: «مثلاً قرية عين عنوب الملاصقة جغرافياً لمدينة الشويفات، قرية جميلة جداً ويمكن إقامة مشاريع عديدة فيها، لكن موازنتها السنوية لا تتجاوز بضعة ملايين، فيما تمتلك مدينة الشويفات المجاورة المليارات من الأملاك والجبايات سنوياً. كيف نطلب إنماءً متوازناً في هاتين البلدتين مع هذا الاختلاف في الأحجام والموارد؟».
ويلفت بعلبكي، قبل أن يوضح فكرته، إلى أن قانون البلديات لعام 1977 «عاجز عن إدارة نفسه، وهو بحاجة دائماً إلى الزعامات المحلية لإدارته، وخصوصاً مع هيمنة وزارة الداخلية وأجهزتها على البلديات، وتتداخل فيه القوانين بما يعيق الإنماء الحقيقي، وإشكالية النطاق البلدي شرط إدارة تنمية حقيقية في لبنان». بناءً عليه «إذا ما أُعيد تقسيم المناطق تقسيماً مختلفاً عن الحالي، يستطيع المواطنون اختيار قياداتهم أفضل».
أزمة لبنان ناجمة عن اختزال مفهوم التنمية إلى مفهوم المقاولة
يشرح: «إذا اقترحنا التقسيم على أساس أنه يعطى لكلّ 20 ألف صوت بلدية، يمكننا أن نتوقع خروج الناس من عصبياتها، وخصوصاً مع قانون للنسبية، أو في ظلّ قانون غير طائفي. وهذا ما قد يوزّع التمثيل على الأكثر نشاطاً سياسياً وإنمائياً في العائلات والأجباب». بعلبكي يرى أن الناس اليوم «تختار المجالس البلدية بعصبية، منطلقة من رابط الدم والعصبيات المسيّسة التي تغلب عصبيات التنمية، وهذا ما يساعد على تفاقم الفساد والمحسوبيات عبر منع دفع الجباية وتمرير المخالفات». إذ يلفت إلى أن «حجم الجباية في كلّ بلديات لبنان، وخاصةً الصغيرة منها، لا يزيد عن 20% من المبالغ المفترضة، وهي أصلاً لا تمتلك القدرة على الجباية صحيحةً، ولا يمكنها تحقيق تنمية صحيحة بأهداف طموحة في نطاقات صغيرة» مستنتجاً أن البلديات «لم تنجح في تجاربها».
يقدّم بعلبكي أمثلة «في الأردن تقلّص عدد البلديات من المئات إلى أن أصبحت 60، وفي العراق لا بلديات بل مجلس قضاء»، مذكراً بأن «مجلس قضاء منتخب من الناس هو بند وارد في اتفاق الطائف، على أن يرأسه القائمقام ويصبح هو صلة الوصل بين مركزية الوزارة والإدارة المحلية، على أن تراعي هذه الاقتراحات وضع البلديات الكبرى في لبنان».
الأهمّ في حديث بعلبكي اقتناعه بأن «التنمية الحقيقية بحاجة إلى ثقافة واسعة ودراسات معمّقة لكلّ واقع البلديات في لبنان، ولن يكون ذلك إلا عبر وضع رؤية وطنية شاملة من رأس الهرم، أي سلطة ورؤية الحكومة إلى النطاق البلدي الصغير». ويعيد التذكير بما أثبتته التجارب «في لبنان والعالم، الإنماء لن يتحقق إلا إذا انطلق أفقياً، وخصوصاً باتجاه الأرياف، واعتمد سياسة التقليل من مركزية الاقتصاد في المدن حتى لا نبقى واقعين في أزمة أحزمة البؤس وما ينتج منها من مشاكل وصعاب». باختصار «يجب أن نخرج من الثوابت السياسية والاقتصادية والثقافية التي حكمت، والتي تمثّل الكيان اللبناني عبر تاريخه، إلى طروحات الإنماء المتوازن وتوسّع القطاع التعاوني في تنمية الزراعة والأرياف وأيضاً في شعارات مواجهة التمييز ضد المرأة الريفية، وكذلك في التوجهات الحكومية والحزبية في مجال إعادة الإعمار والتنمية المناطقية، لأن الأزمة في لبنان ناجمة عن نموّ بلا تنمية، واختزال مفهوم التنمية إلى مفهوم المقاولة».


نصائح عملية

يقدّم الدكتور أحمد بعلبكي، الباحث في علم اجتماع التنمية المحلية، مجموعة من الاقتراحات التي تخدم العمل البلدي وتختلف بين المناطق والمدن والأرياف. ومن أبرزها: تشخيص الموارد: إحصاء دقيق للنطاق البلدي (حِرَف، وظائف إدارية، زراعة، صناعة، سياحة بيئية...). التمويل: دراسة كيفية تمويل المشاريع البلدية (وزارات، منظمات مانحة..) وضمان الديمومة للمشاريع (التنمية المستدامة). ومنها قطاع السياحة، بيوت شبابية، تطوير الإنتاج الحرفي وضمان الجودة، تطوير المعارف وبلورة أولوية الحاجات.
التطوير المهني في عدد من القطاعات والمهن مثل تصليح ميكانيك السيارات والحدادة، ومساعدة أصحاب هذه المهن في تطوير محالهم. وأخيراً العمل على التطوير الحرفي والارتقاء بالمهن إلى مستوى أفضل.