كانت البداية بمثابة تحدّ. ففكرة إنشاء تعاونية تديرها مجموعة من النساء في القصيبة بدت مستهجنة. كيف لا والمرأة الريفية قد اعتادت أن تخضع للأمور لا أن تمسك بزمامها؟ إلا أن المخاوف سرعان ما تبددت مع نجاح التجربة
مايا ياغي
كانت حوالى خمس وأربعين سيدة من بلدة القصيبة الجنوبية قد شاركن في دورة تدريبية أقامتها جمعية الشبان المسيحية لإعداد وصناعة غذاء صحي خالٍ من الملونات أو المواد الحافظة. طبعاً، كانت المشاركة في الدورة تتطلب موافقة مسبقة من الزوج أو من الأب. لم تمض فترة وجيزة، حتى بدأ المردود المادي للإنتاج الذي تصنعه هذه المجموعة يظهر، فلاقت الفكرة لدى النساء وأسرهن قبولاً واستحساناً.
قبل ذلك، لم تكن هؤلاء النسوة يشعرن باستقلاليتهن الاقتصادية أو بأن ما يقمن به من أعمال يمكن أن يعود عليهن بالفائدة المادية، إذ لطالما كان دور المرأة في الريف محصوراً في العمل الزراعي من دون أن يتخطاه للمستوى الإنتاجي. بعد التجربة المذكورة، تبدّل الوضع.
«البيارتة»، أي سكان العاصمة بيروت، كانوا الهدف الأول في عملية التسويق. كان الدعم في البداية من جمعية الشبان المسيحية التي سعت لتأمين مركز وتجهيزه ببعض المعدات اليدوية. بعدها، تأسست التعاونية رسمياً عام 2000 (علم وخبر 1/941 ) وبدأت النساء بالعمل في غرفتين قدمتهما لهن البلدية السابقة. إلا أنه، بهمّة النساء المتحمسات للمشروع، استطاعت التعاونية، رغم قدراتها المتواضعة، أن تسوّق في العام الواحد ما يزيد على ستة آلاف عبوة من مختلف الأنواع التي تنتجها من مربيات، ومخللات، ومقطرات، وعصير.
عملت النساء بكدّ لانطلاق مشروعهن، ففي موسم القطاف مثلاً، كنّ يُجبَرن أحياناً على قضاء الليل في التعاونية. من هنا، كان التحدي يزداد لتثبت المرأة نفسها ولتصبح اليد الأخرى التي تدعم الزوج وتسانده في المدخول الأسري. بعدما كنّ خمس نساء، ازداد عدد المنتسبات إلى ثلاث عشرة، خمس في الهيئة الإدارية، وثلاث ملازمات، وثلاث مراقبات، والبقية منتسبات انتساباً دائماً، بالإضافة إلى تعاون بعض السيدات اللواتي خضعن لدورات تدريبية ويعملن على نحو متقطع بحسب ظروفهن. سرعان ما تكلّل الجهد بنجاح متميز، إذ تمكنت التعاونية من المشاركة في معارض غذائية دولية كتونس وأخرى محلية كمعرض «أرضي» السنوي، ومعارض أخرى في صور وصيدا والنبطية. في الإطار ذاته، نُسّق التعاون مع العديد من الجمعيات البيئية والزراعية. ولم تقتصر الدورات على تلك التي تهتم في كيفية الإنتاج السليم، بل اتسعت أطرها لتشمل أخرى تتعلق بالثقافة والمعلوماتية والمحاسبة، وبعدما كانت المنتسبات مشاركات في الدورات، أصبحن ينظمن لقريناتهن في البلدة وجوراها دورات تدريبية محلية يلقّنهن فيها ما اكتسبنه من خبرات.
الآن، يبدو إيجاد مركز دائم وأكبر من ذلك الذي منحتهن إياه البلدية السابقة من أهم الأهداف التي تسعى التعاونية لتحقيقه. «مدة إيجار مركزنا الحالي هي عشر سنوات انقضى منها تسع، نأمل أن يتوافر لنا حلّ بديل خلال السنة المقبلة»، تقول رئيسة التعاونية جميلة مهدي.
أما المعدات الموجودة في مركز التعاونية، فمعظمها من «الستانلس ستيل» تتضمن أجهزة تعمل على البخار، وتفوق قيمتها المئة ألف دولار، وقد تأمّنت من خلال دعم العديد من المؤسسات الأجنبية والمحلية مثلUNDP ، وCRTD ومن بعض الأفراد، في ظل تغاض كامل من البلدية الحالية، وخصوصاً في ما يتعلق بمعاناة التعاونية مع شحّ المياه الذي يمنعها من إنتاج كميات أكبر من منتجاتها. العقبات الأخرى التي واجهت التعاونية تتعلق بعدم وجود رأسمال متحرك، ما يدفع أعضاءها للالتزام مع شركات خاصة تسوّق الإنتاج الغذائي تحت اسمها، بعد أن تؤمّن بنفسها المواد الأولية المطلوبة للسيدات اللواتي يتقاضين أجورهن منها. لا يخفى على أحد ما تلعبه هذه التعاونيات من دور في تفعيل الدورة الاقتصادية الزراعية في الأرياف، وخصوصاً في مجال تصريف إنتاج المزارع الصغير وتاجر القرية الصغير، وفي تفعيل دور المرأة الريفية وتعزيزه مباشرة. إلى جانب ذلك، يبرز دور التعاونية في مجال التوجيه الزراعي، إذ تطرح الجمعية الزراعات البديلة من التبغ وتوجيه المزارعين نحو زراعات أخرى مثل الزعتر والسمسم واليقطين والأبو صفير.
لا تزال المنتسبات يخضعن لدورات مستمرة مع جمعية الشبان المسيحيين التي واكبت انطلاقة التعاونية منذ بداياتها، والتي تساهم بمراقبة إنتاجها في مختبراتها الخاصة بعد أن تخضع لمراقبة في مختبر التعاونية.
في النهاية، تعمل هؤلاء النسوة بحماسة هي الضامن الأول لنجاح تجربتهن، فـ«الاهتمام المادي والمعنوي الذي تتلقاه هؤلاء النساء من خارج النطاق الجغرافي هو أكبر وأوسع من ذلك الذي يتلقّينه في البلدة» كما تختم مهدي.