دينا حشمت
تستقبلني في بيتها الصغير بالقرب من أوتريخت في جنوب أمستردام. نتفرّج على تسجيل حفلتها الأخيرة في البحرين، وسرعان ما يُنسيني الشاي والـ«كليجة» المطرَ والبردَ في الخارج. تعيش فريدة أحد الأسابيع الرتيبة، من دون مهرجانات ولا بروفات، أسابيع تمتد بطيئة في بلدة لا أنشطة ثقافية عربية مهمة فيها. تجلس على كنبة الصالون الداكن، مشتاقة إلى لحظة تألق جديدة تتذوّق فيها «الحياة بكاملها»، مستأنسة بنغمات آلة «الجوزة» العراقية التراثية التي يعزف عليها «أبو ثريا»، زوجها ورفيق دربها، مدير «فرقة المقام العراقي». وهو الذي يلحّن لها أحياناً ويقف معها على المسرح دائماً.
تتحدّث «سيدة المقام العراقي» بسرعة وبكثير من التفاصيل عن محطات حياة حافلة، عن لقائها بمنير بشير وعملها أستاذة في معهد الدراسات الموسيقية في بغداد. لا تستسلم للذكريات الأليمة. تتذكّر بصورة عابرة قسوة قرار المنفى في عام 1996 والشهور الثمانية عشر التالية التي قضتها بعيداً عن ابنها وابنتها. لم تستسلم، فقد كانت واثقة من أنه قرار لا مفر منه. سمح لها بأن تطوّر فنها وتسهم في الحفاظ على المقام العراقي وانتشاره، حسبما تقول. وحالياً، تعكف مع زوجها محمد كمر على تسجيل عدد من المقامات: «نحن في أوج عطائنا» تقول. لا تعرف بعد من أين تأتي بالتمويل لحجز الاستوديو الصغير الذي سجّلت فيه معظم أسطواناتها، ولدفع أجور العازفين. أما أجرها هي، فلا يهمّ: «المقام معركتي الخاصة للحفاظ على الذاكرة العراقية».
صغيرة، كانت فريدة تذهب بصحبة والدها المترجم إلى استوديوهات الإذاعة والتلفزيون في بغداد. تحفظ الأغاني الفارسية في «البرنامج الفارسي» الذي كان يعدّه. تتعرّف متلهّفة إلى المشاهير. كبرت وسط ستّ أخوات وأخ واحد، ووالدين مولعين بالفن والموسيقى. كانت تتحدّث الفارسية مع أمها الأذربيجانية، والعربية مع أبيها. لم تكن تبلغ إلا أربعة عشر عاماً، عندما وقفت أمام منير بشير. استمع عازف العود الشهير إلى صوتها القوي وقرّر على الفور أن «هذا الصوت النسائي لا بد أن يكرّس للمقام». وتضيف فريدة باسمة «ما كنت أعرف شلون اتعلم مقام».
سنوات التعليم الأولى تحتاج إلى التبحّر في شتّى العلوم، من إتقان قراءة الشعر إلى تعلم «الأُوكْتافات»، مروراً بحفظ عدد لا بأس به من المقامات، نَهَوَند، دِشت، مَحالف، عَجم. «والدي كان يجلب لي مقامات ناظم الغزالي، ويوسف عمر، ومحمد القبانجي». ساندها وحاك لها «خطة خاصة» حتى تدخل «هذا المجال». شجّعها حضوره، فوقفت على المسرح لأول مرة في عام 1985 ضمن «مهرجان يوم الفن» في بغداد: «كنت خائفة جداً. هل يقتنع الجمهور العراقي بامرأة تؤدي المقام؟ الحمد لله، نجحت في الاختبار وصفّق لي الجمهور. وصار عندي علاقة بالجمهور، والآن لي أداء خاص بي».
بعدها، أنهت دراستها وأصبحت أول امرأة تدرّس المقام في العراق. تتذكّر المعهد، صفوف عازفي العود والجوزة الذين كانوا يقفون على المسرح أيام التخرّج. تتذكّر أيام شبابها في بغداد صاخبةً حيويةً. حتى أثناء الحرب على إيران، التي استشهد فيها زوجها الأول: «كانت الحياة عادية في المدينة». تتذكّر سهرات كانوا يعودون بعدها إلى المنزل في الثانية أو الثالثة فجراً. كلها أمور لم تعد ممكنة اليوم. قبل بداية حرب الخليج بسنتين، أسّس محمد كمر «فرقة المقام العراقي». كان يحيي حفلة في لاهاي سنة 1996 عندما قررا عدم العودة إلى البلاد. تتحدّث باقتضاب عن تهديدات من دوائر أمنية. حصلت على اللجوء السياسي في هولندا ولم تعد إلى بلدها إلا في عام 2005. أقامت حفلة في الكردستان العراقي ولم تبق إلا خمسة أيام. «لم أجد العراق الذي كنت أعرفه. ما هذه بغداد التي أعرفها، ما هؤلاء هم العراقيون الذين أعرفهم». تكرّر: «بلدنا انظلم».
غنت لمحمود درويش «لي قمر في الرصافة. لي سمك في الفرات ودجلة/ ولي قارئ في الجنوب. ولي حجر الشمس في نينوى...»، خلال حفلة في برلين حضرها الشاعر الراحل. وكان بين الحضور أيضاً أدونيس الذي غنت له قصيدة «من أوراق خولة». هكذا تواسي نفسها، بالغناء للعراق، بأداء «مقامات وأغاني الحنين». حفلاتها في لاهاي يحضرها عدد كبير من أبناء الجالية العراقية ليستمعوا إلى صوتها القوي الشجي في «أي شيء في العيد» أو في الأغاني الكردية التي أصبحت تجيدها بعد احتكاكها بعائلة زوجها.
الغناء لديها ليس «طرباً» فقط. إنه مهمة حياة، ليس فقط حفاظاً على الشكل الكلاسيكي، بل أيضاً لدفع المقام إلى التجاوب مع تيارات موسيقية أخرى. هكذا أحيت في إسبانيا «مقام فلامنكو»: «كان أداءً ارتجالياً. الفلامنكو قريب من الإيقاع العربي». وفي هولندا، دخلت في تجربة مع فرقة «ميتروبول». لكن كان الكلام واللحن هولنديين. تجربتها مع «الجمهور الأوروبي» إيجابية: «قد لا يفهمون الكلمات، لكنهم يستمتعون». تتذكّر حفلة في البرتغال في عام 2005 غنّت خلالها أمام عشرة آلاف متفرّج، ظلوا يردّدون معها «جميلة» حين غنت «الليلة حلوة يا جميلة».
«لماذا يهتم الأجانب بتراثنا، بينما الدول العربية لا تهتم؟» تتساءل، متذكّرة أنّها حضرت حفلة لإحياء ذكرى منير بشير في ميتشيغان، «فيما من المفروض أن يقام لهذا الرجل تمثال في بغداد». ثم تشكو من الفضائيات: «نعاني منها ونصارع معها». لهذا السبب «نخاف على مستقبل المقام العراقي». لكنها لاحظت «بعض الاهتمام به في دول الخليج». فريدة علي عادت أخيراً من «مهرجان ربيع الثقافة» في البحرين، وتستعد لحفلة جديدة في الشهر المقبل في قطر، قبل أن تقوم بجولة في بريطانيا، خلال تموز (يوليو) المقبل، وتعود بعد ذاك لإحياء حفلة في الأردن. تضحك: «نحب الجمهور العربي إحنا».


5 تواريخ

1963
الولادة في كربلاء

1990
أول امرأة تدرّس المقام في معهد الدراسات الموسيقية في بغداد

1996
آثرت المنفى، واستقرّت في هولندا

2007
ميدالية «الجزائر عاصمة الثقافة العربية»

2010
تستعدّ لسلسلة حفلات في البحرين وقطر وبريطانيا