قبل أن تغزو القنابل المدمرة، الذكيّ منها والغبيّ، أسواق الحروب في العالم، ولبنان من أهمها، لم يكن بناء الملاجئ في قرى المواجهة همّاً أساسياً. بعد إعادة إعمار الضاحية والجنوب، عقب حرب تموز، فوجئ المتابعون بأن الملاجئ لم تؤخذ بعين الاعتبار، فما السبب؟
منهال الأمين
يعرف العسكريون «الدفاع السلبي» على أنه «الاحتماء بعيداً عن نيران العدو»، وهو يشمل بالدرجة الأولى إنشاء الملاجئ للمقاتلين والمدنيين على حدّ سواء. وقصة الملاجئ قديمة في المنطقة الحدودية التي كانت تتعرض للقصف الإسرائيلي نتيجة نشاط المقاومة الفلسطينية والأحزاب المتحالفة معها ضد العدو الإسرائيلي، وبعد انكفاء الأخير في عام 1985 إلى ما سمّي الحزام الأمني، صارت قرى التماس معه معرّضة يوميّاً للقصف الإسرائيلي واللحدي، إلا أن كل تلك المآسي التي مرت على أبناء هذه المنطقة، وأوقعت في صفوفهم آلاف الشهداء و«معظمهم من المدنيين!»، لم تدفع بأحد، لا من الجهات الرسمية ولا من قوى الأمر الواقع، إلى المبادرة لإنشاء ملجأ يعتدّ به على طول المنطقة الممتدة من مزارع شبعا حتى رأس الناقورة، فيما إسرائيل أنفقت ميزانيات ضخمة على بناء مثل هذه الملاجئ في المستوطنات الممتدة على الحدود مع لبنان. فنجد مثلاً رئيس بلدية عيترون الحدودية، سليم مراد، غير متحمّس لفكرة إنشاء ملاجئ في قريته. فالرجل الذي لازم الأهالي خلال حرب تموز 2006، ورأى بعينيه شهداء المجزرة الإسرائيلية، أطفالاً ونساءً من عيترون، يدرك «بنتيجة التطور العسكري الميداني» أن الملاجئ لا تحمي أحداً. ويستذكر أن الهاربين من جحيم الموت تحت المنازل المدمرة، لم توفرهم آلة الحرب وهم ينزحون عن القرية، في إشارة إلى شهداء البلدة الذين قضوا بغارة إسرائيلية على طريق البازورية ـــــ صور. ويرى مراد أن ما درج على بنائه الناس من ملاجئ منذ السبعينيات، ومعظمها ملاجئ فردية، يمكن أن تحمي من «القصف العادي» لا من القصف التدميري الذي شهدناه في العدوان الأخير. ولكن ألا تكفي هذه الاستفادة الدنيا من وجود الملاجئ الفردية للإقدام على بنائها وبكثرة من أجل تأمين الحد الأدنى من الحماية للمدنيين؟ لا يبدو الجواب حاضراً في ذهن مراد «فإمكانيات البلديات لا تكفي لبناء ملاجئ عائلية تتسع لما بين 5 و8 أفراد، وتصل كلفتها إلى 400 ألف دولار». ولكن، ماذا عن حزب الله؟ يؤكد مراد أن الأخير أجرى دراسة لبناء ملاجئ في القرية، لكنه حتى الآن لم يباشر بالتنفيذ «ولا علم لديّ متى يبدأ هذا الأمر». ويشدد على «تفعيل موضوع رسم الملاجئ في رخص البناء وكذلك إلزامية إنشاء ملجأ فردي يشكل ثلث مساحة البيت المنوي إنشاؤه، والذي يتم التغاضي عنه وإجراء تسويات للمخالفين».
ويذكّر أحد الناشطين في صفوف قوات الصاعقة أوائل السبعينيات بدعم الأخيرة لبناء ملاجئ في قرى عيترون وحولا وشقرا وعيناثا، إلا أن هذه الملاجئ كانت تُبنى بمواصفات عسكرية وتعدّ لاستقبال المقاتلين، ومع الوقت أصبح المدنيون يلجأون إليها بحكم الحاجة، لكنها غير مجهزة طبعاً للاستمرار لأكثر من بضع ساعات. كذلك أنشأ حزب البعث العراقي عدداً من الملاجئ في قرى حدودية، أشهرها في كفركلا.
وفي مطلع التسعينيات، بعدما تسلّم حزب الله دفّة المقاومة بكل قوة في المنطقة، أقدمت مؤسسة جهاد البناء التابعة للحزب على بناء ملاجئ في عدد من القرى (شقرا، برعشيت، قبريخا...)، إلا أن الأهالي بحسب أحد المهندسين المشرفين حينها «لم يكن عندهم ثقافة التعامل مع الملجأ، لناحية الطمأنينة من جهة، والأهم لناحية تجهيز الملجأ والاهتمام به وصيانته وتزويده بمواد غذائية حتى لا يضطر الناس إلى الخروج منه في الأوقات الحرجة، إضافة إلى دورات المياه ووسائل التهوئة وغيرها من أمور تساهم في الصمود لأيام عدة».
اسرائيل أنفقت ميزانيات ضخمة على بناء الملاجئ في المستوطنات القريبة
أما على صعيد السياسة الحكومية تجاه الملاجئ، فيشير العميد المتقاعد أمين حطيط إلى أن الدولة بعد عام 1969، حاولت وضع خطة لبناء ملاجئ، وأعطت التراخيص والمساعدات عبر مجلس الجنوب، وفرضت على الأبنية بعد عام 1970 وجوب إنشاء ملاجئ تشكل ثلث مساحة المنزل، إلا أن هذا الأمر لم ينفذ بالدقة المطلوبة، وكان الجيش يتدخل ويدقق فنياً لضمان وجود ملاجئ بمواصفات فنية سليمة. وعلى الرغم من السير في تطبيق هذا القانون لحوالى 4 سنوات، إلا أن الخطة لم تشمل أكثر من 10% من مجموع الأبنية المنشأة في تلك الفترة، إضافة إلى أن الملاجئ التي أنشئت حينها لم تكن لتغطي أكثر من 5% من السكان، وبالتالي فإن الباقين ظلوا من دون ملاجئ. ويجزم حطيط بأن السياسة الحكومية آنذاك لم تتوصل ـــــ على الرغم من الحاجة الملحة ـــــ إلى إنشاء منظومة من الملاجئ، فضلاً عن عدم تقديم أي نوع من الضمانة للمواطنين المقيمين في المناطق المعرضة للاعتداءات، فكان النزوح سيد الموقف. ويذكر أن الملجأ اليتيم الذي يتمتع بمواصفات مناسبة نوعاً ما أنشئ في النبطية في أواسط السبعينيات بمساعدة عربية، بعد مطالبة حثيثة من الأهالي. إلا أنه أيضاً لم يتناسب مع حجم النبطية. كذلك أنشئت ملاجئ أقل أهمية في الخيام وبنت جبيل وبعض القرى الأخرى. وبناءً عليه، فإن حطيط يرى «أن الجنوب بقي أعزل من خطة دفاع سلبي». وعلى الرغم من سيطرة الأحزاب في منتصف السبعينيات وانكفاء الدولة بأجهزتها عن المنطقة، إلا أن هذه الأحزاب والقوى المسلحة بقيت تتكل على الدولة لإنشاء الملاجئ، وذلك بسبب محدودية إمكانياتها. ومن هنا، فإن الدفاع المدني، والدفاع السلبي أحد أركانه، صار يقتصر في ما بعد بحسب حطيط «على مواكبة النازحين، الذين لا يجدون ملجأً يؤوون إليه ولو لساعات، ومع التطور النوعي في التدمير لدى العدو وامتلاكه للقنابل الذكية والقذرة والنتنة والفراغية و قنابل الـDAM، فإن الملاجئ فقدت قيمتها في الدفاع السلبي وصارت قبوراً جماعية افتراضية، وعليه تحول النزوح خياراً أول للمواطن الجنوبي».
ويرى حطيط أن الحل الأمثل يقضي بالامتناع عن بناء ملاجئ جماعية، والسعي إلى بناء ملاجئ محدودة (5-8 أفراد)، تنشأ في أماكن بعيدة عن المنازل، حتى لا تتعرض للقصف والتهديم. وهذا برأيه يجعل استهدافها صعباً، وخصوصاً إذا كانت مموّهة بطريقة جيدة، لأن العدو يدرس تقدير الجدوى من خلال استهداف ملجأ صغير بقذيفة قد يصل وزنها إلى 1000 كلغ. ويخلص إلى أن «الأماكن المعرضة للاعتداءات، ولبنان كله معرض، بحاجة إلى منظومة من الملاجئ الصغيرة الحجم، تحمل المدنيين على التفكير بالصمود لمدة معقولة، إضافة إلى أن عدم التناسب بين الكلفة والنتيجة، يمنع العدو من استخدام القذائف الفتاكة».
وفي الضاحية التي اتكل أهلها في الحروب المتعاقبة على الملاجئ ـــــ المواقف في أسفل بناياتها، فإن القنابل الفراغية صارت هاجساً حقيقياً لهؤلاء بعد حرب تموز، حين كان المبنى المؤلف من 12 طبقة يذوب في حفرة بحجمه تقريباً خلال ثوانٍ معدودة كما يقول محمد حمود، من سكان حارة حريك، والذي يستبعد أن يفكر أحد مجرد تفكير بالنزول إلى الملاجئ، هذا إذا وجدت. وهي فعلاً غير موجودة، كما يؤكد المدير العام لشركة وعد حسن جشي «فنحن لم يكن وارداً في صميم عملنا إنشاء ملاجئ، لأنها بدون جدوى وفقاً للتجربة الأخيرة، وما سعينا إليه هو إضافة مواقف سيارت تحت المباني ما أمكننا ذلك». ولكن جشي يشدد على «عدم دعوة أحد للاحتماء داخل هذه المواقف، بسبب طبيعة القذائف المستخدمة، وكذلك عدم تجهيز هذه المستودعات بالحمامات ومصادر المياه والتهوئة وأماكن مناسبة للنوم ورعاية الأطفال والمرضى». ومن ناحية البلديات، فإن موقف رئيس بلدية الغبيري محمد سعيد الخنسا لا يختلف عن نظيره سليم مراد، مع تأكيده أن منشآت البلدية، كالمركز الصحي والمجمع التربوي سيصار إلى بناء ملاجئ فيها مجهزة ببعض التجهيزات الضرورية، لكنه يجزم بأن الحل «بوجود منظومة دفاع جوي تمنع الطائرات من قصف المناطق المدنية بحرّية كما حصل في عام 2006». وعليه، يخلص جشي إلى أن «سياسة الملاجئ بعد الحرب الأخيرة سقطت». والحل بحسب حطيط أيضاً في صرف الإمكانيات المزمع صرفها في بناء الملاجئ «على التسليح وامتلاك سلاح صاروخي ومضادات للطيران أكثر فعالية، وهو ما يبعث على الطمأنينة الحقيقية لدى الناس في ظل عدم التكافؤ العسكري مع العدو».


أين مفتاح الملجأ؟

ينقل هشام (اسم مستعار) أنه في إحدى جولات القصف العنيفة على بلدته المواجهة للشريط الحدودي آنذاك، عمد إلى الهروب بأولاده وزوجته من منزله ذي الطبقة الوحيدة، وليس فيه ملجأ طبعاً، وتوجّه من فوره إلى الساحة العامة حيث كانت فرق جهاد البناء التابعة لحزب الله قد أنهت بناء ملجأ، ظن هشام أنه معدّ لمثل هذه اللحظات العصيبة، وإذا به يفاجأ بأن الباب مغلق، هرع الى الباب الثاني فوجده مغلقاً هو الآخر، فصار يصرخ بأعلى صوته: «أين مفتاح الملجأ، أين المفتاح؟». فما كان من أحد جيرانه الذي صادف وجوده في المكان إلا أن أجابه بالقول: «مجنون إنت بدّك تنزل عالمقبرة، إذا ما متّ من القصف بتموت فطيس». هذا مع الإشارة إلى أنه أصلاً لم تكن هناك سياسة بناء ملاجئ يوم كانت تنفع المضطرين الذين لن يجدوا بداً من النزوح إلى أماكن أكثر أماناً، إذا وجدت.