أبرز ما يميز الفعل المقاوم للمحتل، أنه حركة ذات نتائج تراكمية من شأنها أن تدفع المحتلين في نهاية المطاف إلى الانتقال من موقف داعم لاستمرار الاحتلال، إلى موقف مؤيد لإنهائه
يحيى دبوق
إذا استمر الفعل المقاوم والجاد ضد المحتل، حائلاً بينه وبين تحقيق أهدافه، يعمد المحتل إلى استخدام ما لديه لاجتثاث المقاومة، أو تحييد تأثيرها. وفي حال الفشل، تتكون نواة صغيرة لدى المحتلين تدعو إلى الانسحاب، ثم تتسع لاحقاً في ظل استمرار الفعل المقاوم، لتصل إلى أصحاب القرار. لكن في حالات محددة، يجري استشراف ذلك مسبقاً من أحد الأطراف، ما يؤدي إلى انسحاب مبكر، وهذا ما حصل مع إيهود باراك.
بعيداً عن الأهداف الحقيقية وراء استمرار احتلال الجيش الإسرائيلي لجنوب لبنان، سواء كانت توسعية (استيطان أجهض في مهده) أو سياسية (أوراق ضغط في الساحة اللبنانية) أو أمنية (الدفاع عن إسرائيل) أو شيئاً من هذا وذاك، رفع متخذ القرار في تل أبيب شعاراً هادفاً إلى كسب مشروعية لدى الجمهور الإسرائيلي، هو الدفاع عن مستوطني شمال إسرائيل. من هنا، كانت تسمية المنطقة التي بقيت محتلة لغاية الانسحاب بالحزام الأمني... والحكم على نجاح الاحتلال، من ناحية المستوطنين الإسرائيليين، وبالتالي ضرورة استمراره أو إمكانه، متصل بمدى تحقيقه للأمن الموعود في الشمال، قياساً على الأهداف المعلنة.
الاستراتيجية التي اتبعتها المقاومة، في المقابل، تركزت على إظهار أن الاحتلال نفسه غير قادر على توفير الاستقرار الأمني لشمال إسرائيل، بل إن الاحتلال نفسه هو سبب مباشر لعدم تحقيق الأمن. الجميع يذكر المعادلة الموضوعة من المقاومة: يُقصف شمال إسرائيل إذا تجاوزت تل أبيب الخطوط الحمر الموضوعة من المقاومين. لكن مشكلة الجيش الإسرائيلي في حينه أن أصل الاحتلال يفرض عليه في ظل المقاومة، وفي ظل فقدان أدوات التأثير والضغط المباشرين عليها، تجاوزاً للخطوط الحمر، ما يعني بالنتيجة استهداف شمال إسرائيل، وبالتالي استمرار عدم الاستقرار الأمني في المستوطنات.
لم يكن شارون معارضاً للانسحاب من لبنان لكنه اشترط توجيه ضربة عسكرية قبله
بطبيعة الحال، لم يقف الجيش الإسرائيلي غير فاعل، وعمل على كسر المعادلة المفروضة عليه وفك الارتباط بين تردي الوضع الأمني في شمال إسرائيل، والاحتلال نفسه... حاول التحرر من هذه القيود من خلال عدوانَي 1993 و1996، ومن خلال «تصفير» الأهداف الإسرائيلية أمام المقاومين والاختباء وراء التحصينات والاتكال على عملائه. إلا أن هذه المحاولات فشلت واستمرت الخسائر في صفوفه، مع تواصل عدم الاستقرار الأمني شمال إسرائيل.
وعبر مسارات تراكمية، بالتزامن مع القلق الأمني في الشمال، بدأت تتكون وتتعزز النظرة العامة والجامعة في الجانب الآخر من الحدود، لمعاني الاحتلال وتداعياته: بدلاً من أن يكون الاحتلال حامياً لشمال إسرائيل، حولته المقاومة باستراتيجيتها الناجعة سبباً لعدم استقرارها. من هنا، بدأت تتفاعل المسألة في أوساط الإسرائيليين، وصولاً إلى قرار الانسحاب.
النظرة الجامعة لدى الجمهور الإسرائيلي لحظة اتخاذ قرار الانسحاب، كانت على النحو الآتي: تواصل سقوط الجنود في جنوب لبنان، وتواصل عدم الاستقرار الأمني شمال إسرائيل... بل إن وجود الاحتلال نفسه بات سبباً في التردي الأمني، في ظل معادلة الرد والرد المقابل، ما يعني أن سقوط الجنود على الأرض اللبنانية، كان بلا نتيجة وبلا سبب... وبطبيعة الحال، كانت هذه النظرة دافعة لإيهود باراك كي يعلن نياته بالانسحاب. وهذا ما تحقق لاحقاً.
تكوّنت فكرة الانسحاب من لبنان، وانتشرت تدريجاً، وعلى نحو تناسبي مع استمرار المقاومة ونجاح استراتيجياتها. تذكر صحيفة يديعوت أحرونوت (28/05/2001)، أنه «في مطلع عام 1997، اجتمع عضوا الكنيست ميخائيل إيتان وجدعون عيزرا، من صقور حزب الليكود، مع يهودا هرئيل من حزب الطريق الثالث (الوسط)، وأيضاً مع (الوزير السابق) يوسي بيلين عن حزب ميرتس اليساري، وأعلنوا تأييدهم للانسحاب من لبنان... فلا شيء نفعله هناك».
ورئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، أريئيل شارون، لم يكن معارضاً للانسحاب من لبنان، لكنه كان يشترط، قبل ذلك، توجيه ضربة عسكرية شديدة قبل الانسحاب. أما رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، فـ«بدأ بالتفكير الجدي بالانسحاب من لبنان، بعدما تبين له حجم التأييد الجماهيري للخطوة». ويذكر سكرتير الحكومة الأولى لبنيامين نتنياهو، الوزير السابق داني نافيه، في مقابلة أجرتها معه صحيفة يديعوت أحرونوت (24/09/1999)، أن «تفكير نتنياهو كان تعبيراً عن نيات حقيقية... لقد كان يخشى تفويت الفرصة، إذا لم يخرج من لبنان».
يذكر قائد فرقة حيرام في الجيش الإسرائيلي خلال فترة الاحتلال، العميد تشيكو تامير، في كتاب صدر عن وزارة الدفاع الإسرائيلية عام 2005، أن «الجيش في لبنان كان جيشاً ثقيلاً، لم يفهم ما يحدث، وأدار حرب استنزاف من دون قدرة على الحسم، وفي بعض الأحيان كان مصاباً بالشلل في ظل الخوف من سقوط ضحايا وردة فعل المواطنين على الخسائر».
لا يمكن احتلالاً مشابهاً، مع فشل مشابه، ونتائج مشابهة، أن يبقى ويستمر. كان قرار الانسحاب منطقياً، وكان لدى إيهود باراك القدرة على استشرافه وإقراره مبكراً، ليس أكثر.