تصوير حياة ما بعد الموت على جدران القبور عادة بدأها الإنسان العاقل منذ أن حاول إعطاء تفسيرات للرحيل عن هذه الأرض. فهم الموت والتغلّب عليه شغلا الديانات على مرّ الحضارات والعصور. وها هي جداريّات مقبرة صور الرومانية تجسد معتقدات أهل تلك المدينة قبل ألفي عام
جوان فرشخ بجالي
زيارة خاطفة للمتحف الوطني في بيروت تبرز أهمية مدينة صور في الفترة الرومانية. فعلى مدخل الطبقة الأرضية، تستقبل الزائر نواويس رخامية ضخمة، وتحفل الطبقة الأولى بالمنحوتات الرخامية والزجاحيات. وفي الأشهر المقبلة، ستفتتح الطبقة السفلية في المتحف للتمكّن من زيارة المقبرة الرومانية التي زُيّنت جدرانها بأروع الرسوم. المقبرة التي اكتشفت عن طريق الصدفة في منطقة البرج الشمالي عام 1937، تعبّر رسومها أوّلاً عن معتقدات العائلة التي دفنت فيها، وتعطي ثانياً فكرة عن الحياة والطقوس في صور في القرنين الأول والثاني للميلاد. وتشرح آن ماري عفيش مديرة المتاحف في المديرية العامة للآثار «أن الدراسة التي قام بها العالم الفرنسي موريس دونان عن المقبرة أكدت أن الـ14 مدفناً فردياً التي تكوّن هذه المقبرة، استعملت لدفن 43 شخصاً في مدة لا تتخطى الخمسين عاماً، وهي تحمل شكلاً هندسياً معروفاً في تلك الفترة: درج يقود إلى الغرفة الوسطى التي حفرت في جدرانها فتحات، وضعت النواويس في داخلها. وما يميّز هذه المقبرة المعروفة بـ«مقبرة صور» هي الرسوم التي غطّت جدران قاعتها الوسطى. فهي في غاية الإتقان، وتعدّ من الأروع في تصوير الفن الجنائزي في الفترة الرومانية. المواضيع المصوّرة مستوحاة من الميثولوجيا الإغريقية، لكنّ طريقة الرسم المتّبعة رومانية بامتياز، ويمكن تأريخها بالقرن الثاني للميلاد».
جدارية مقبرة صور لإعطاء أمل بالانتصار على الموت
أما عن وجود المقبرة في المتحف الوطني، فتقول عفيش «إنه في عام 1942، تمكّن المهندس الأميركي هنري بيترسون من اقتلاع الجداريات التي تزيّن المقبرة، وأعاد تركيبها في قاعة بنيت خصيصاً لهذا الغرض في الطبقة السفلية من المتحف الوطني في بيروت». وكان الهدف من هذه الخطوة إنقاذ الرسوم وإبرازها في العاصمة، وهذا ما حدث حتى اندلاع الحرب الأهلية. فخلال تلك السنين، غطت المياه الجوفية الطبقة السفلية ومخازن المتحف الوطني، وطالت المياه الجزء الأسفل من المقبرة وكادت الرطوبة العالية أن تدمر الجداريات. لذا، يقوم اليوم فريق مشترك لبناني ـــــ إيطالي بترميم تلك الجداريات (راجع «الأخبار» في 23/3/2010) بعدما دفعت الوكالة الإيطالية للتنمية تكاليف الترميم والتأهيل التي لم تتخطَّ قيمتها 194.000 يورو. وتقول عفيش إنّ «عملية الترميم ستنتهي في تشرين الثاني من هذه السنة، ومن بعدها ستفتتح المقبرة أمام زوار المتحف الوطني».
ويقول موريس دونان في مقالته، التي نشرت سنة 1965 في منشورات المتحف الوطني، إن «هذه اللوحات تشير في آن واحد إلى المعتقدات الفينيقية والساميّة التي كان سكان تلك المدينة يؤمنون بها حتى بعد تبنّيهم للأساطير الإغريقية. فمدخل المقبرة مصوَّر على شكل باب، له فتحات وأقفال، وهذا رمز لأبواب العالم الآخر التي يدخلها الميت، وهي موصدة دائماً بوجه الأحياء. وهذا معتقد شرقي يعود إلى الفترة البابلية وأسطورة تموز والانتصار على الموت بعد اجتيازه أبواب الجحيم. هذا المعتقد بأن الموت ليس نهاية، ويمكن كسر قيوده، صُوِّر أيضاً على جدران المقبرة في لوحة تبرز هرقليس وهو يُخرج من عالم الأموات السيست، الزوجة الفضلى التي قررت الموت لإنقاذ زوجها. وهناك جدارية أخرى للبطل الإغريقي المحبّب لأهالي صور الذين رأوا فيه الإله الفينيقي ملكارت، فها هو يمسك سربير كلب الجحيم (الذي يبقي الأموات في عالمهم ويمنع الأحياء من الدخول إليه) برقبته بعدما انتصر عليه.
ولا تتوقف جداريات الانتصار على الموت عند هذه الصور، بل تبرز أكثر في لوحة برسيفون بعدما أعادها هرمس إلى عالم الأحياء، وبهذه الخطوة يبدأ الربيع، فصل حياة الطبيعة بعد موتها في أيام الشتاء البارد. هذه العودة إلى الحياة، التي كانت موجودة في الميثولوجيا الإغريقية، ترمز إلى الفصول الأربعة وتعطي شرحاً لهذا التحول عبر إعادة برسيفون إلى الحياة.
وكانت شعوب الحضارات القديمة تعتبر أن راحة الميت لا يمكن أن تأتي إلا إذا دفن جثمانه بحسب التقاليد الدينية المتبعة في مدينته. من هنا، أتت صورة بريام ملك طروادة جاثياً، مقدماً الفدية لاستعادة جثمان ولده هكتور. إتمام هذه الرسوم على جدران المقبرة يعطي للموت معنىً إيجابياً، ويؤكد أن المعتقدات تتغلب على الموت. وهذا المعتقد متوارث في الحضارات السامية. ففي البابلية، إنه تموز الذي يعود إلى الحياة وتخضرّ معه الحقول. وفي الديانة الفينيقية، إنه أدونيس. وفي المسيحية، هي قيامة المسيح من بين الأموات. القيامة من الموت تأتي دائماً في الربيع، فصل حياة الأرض بعد موتها في الشتاء. إنها الأديان والمعتقدات والأساطير التي تحاول فهم العالم من حولها وإعطاء أمل لامتناهٍ بأن الرحيل ليس أبدياً.