أعمال البعثة الفرنسية اللبنانية في صور تُعيد كتابة تاريخ المدينة وتعطي آثارها بعداً جديداً. فهذه الآثار التي كُشفت قبل 50 سنة لم تُدرس بتفاصيلها ووجوهها، ما يعطي لعمل هذا الفريق أهمية كبرى، ولا سيما أن النتائج الأوليّة مذهلة
جوان فرشخ بجالي
أهمية مدينة صور الرومانية ليست موضوع نقاش، وخصوصاً أن الآثار تقف شاهداً على هذه الفترة منذ أكثر من خمسين سنة. فعلماء الآثار كانوا خلال العقود الماضية قد نقّبوا هذه المعالم وأبرزوها للعالم وصنّفت المواقع الأثرية سياحية. ونشرت نتائج تلك الحفريات في المجلات العلمية، فحدّدت وظيفة كل مبنى. ولكن الحفريات والأبحاث التي تجريها البعثة اللبنانية ـــــ الفرنسية في صور تعيد خلط هذه الأوراق، وتعطي تفسيرات جديدة لمختلف المباني في الموقع البحري، المعروف باسم «آثار المدينة». يشرح الدكتور بيار لويس غاتييه، المدرّس في جامعة ليون ومدير الحفرية في صور، أنه «منذ سنة 2008 والعمل جارٍ في منطقتين أثريّتين هما: الكاتدرائية الصليبية والحمامات الرومانية، وقد أظهرت الدراسة الأوّلية والحفريات التي نقوم بها أن الحمّامات جزء من مجمع ضخم كان يضم إضافةً إلى غرف الاستحمام، ميدانين رياضيين وصالة مسقوفة ومدرجاً للعروض».
المدرج هو المبنى المربّع الشكل الذي كانت الحفريات السابقة قد حدّدته باعتباره سيركاً، وعُدّ في حينه مبنى منفرداً. ولكن غاتييه يؤكّد بحسب نتائج الحفريات أنه جزء تابع لمجمع الحمّامات وكانت تُجرى فيه العروض. أمّا عن الساحة التي تطل على البحر، والتي غُطّيت أرضيتها بالفسيفساء، فيقول مدير الحفرية «إنها أحد الميدانين الرياضيين اللذين كانا يحدّان مجمّع الحمامات». ويكشف مدير الحفرية أن القسم المطل على البحر، الذي رُصفت أرضيته بالفسيفساء والمحاط على جانبيه بأعمدة الغرانيت، والذي كان يعدّ جزءاً من الطريق، كان صالة مسقوفة يرجّح أنها كانت تستعمل للتلاقي والتحادث... فجهة استعمال الحمامات في الفترة الرومانية تشبه إلى حد كبير نوادي الرياضة في عصرنا الحالي. فهي مكان للاجتماع والحفلات والاستحمام في الأحواض الكبيرة. فالحمّامات التركيّة نسخة مصغّرة عن الحمامات الرومانية التي تقسم غرفها إلى ثلاث: الباردة، والفاترة، والساخنة. ويقول غاتييه إن «سبب المحافظة على الجزء السفلي من الحمامات يعود إلى سرقة حجارتها لمدة قرون. فالناس كانوا يَعدّون الموقع خربة مهجورة يمكن الذهاب إليها في أي وقت وانتشال الحجارة الصلبة المنحوتة منها ومن ثم أخذها إلى مكان البناء، واستعمالها مجدداً. وظاهرة «نشل الحجارة» واضحة جداً في موقع الحمّامات وفي أكثر من مكان، ويقال إنّ مدينة عكا بنيت بحجارة مدينة صور الرومانية.
ويرى العالم الفرنسي أن الحفريات الحالية أظهرت أن القسم البارز من هذه الآثار يعود إلى الفترة البيزنطية، ما يشير إلى أن هذا المجمع دام استعماله حتى في تلك الفترة، ولكن في القرون الوسطى وقع في النسيان. إذ تغيّرت الثقافة فلم يعد الناس يهتمون بصيانة مبانٍ للحمامات بهذه الضخامة، ما يتطلب مبالغ كبيرة. لذا شهد الموقع عملية تغيير في استعماله. فقصده الحرفيون وبنوا مشاغلهم فوق الأبنية القديمة. ويقول غاتييه إن «دراسة هذه المحترفات ستسمح بفهم العجلة «الاقتصادية» في صور في تلك الفترة، التي شهدت أيضاً تشييد الكاتدرائية الصليبية التي بقيت جدرانها وأعمدتها واقفة حتى بداية القرن العشرين. ويروي غاتييه أنه قبل تلك الفترة «كانت جدران الكاتدرائية جزءاً من سور المدينة، وأعمدتها بارزة للعيان لدرجة أن الرحّالة صوّروها في لوحاتهم في القرنين الثامن والتاسع عشر». أمّا عن الحفريات الأثرية داخل الكاتدرائية، فيؤكد بحسب مدير البعثة، أن الإفرنج هم من بنوها فوق جزء مأهول من المدينة البيزنطية. ويشرح غاتييه أن المعتقد السائد قبل هذه التنقيبات يقول إن هذه الكاتدرائية مبنية فوق كنيسة صور البيزنطية التي ذكرها المؤرخون، والتي بنيت هي نفسها على أطلال معبد إله صور الفينيقي ملكارت. ولكن بات الآن مؤكّداً أن هذا المعتقد خاطئ. «فالكنيسة مبنيّة فوق بيوت وأسواق من الفترتين البيزنطية والإسلامية وليس في طبقاتها السفلية أيّ إشارة إلى موقع ديني أقدم منها».
أهمية هذه الحفريات الأثرية الحديثة العهد لا تتوقف على دراسة تاريخ المعالم الأثرية ووجهة استعمالها، بل تتخطّاهما لتحاول رسم الحياة اليومية في هذه المدينة في الفترتين الرومانية والبيزنطية، وذلك عبر دراسة قطع الفخار والمسكوكات. فقد عثر العلماء على فخّار مصنّع في مدينة صور في الفترات كلها، واكتشفوا قطعاً مستوردة. ويقول غاتييه إن دراسة القطع المستوردة ستسمح بتقديم شرح جديد للحياة الاقتصادية في المدينة، وخاصةً أنّ هناك تحولاً في التجارة. فقبل القرن السادس ميلادي كانت القطع مستوردة من المدن الواقعة إلى شمال صور مثل بيروت وصيدا وأنطاكيا... أمّا بعد القرن السادس، فباتت التجارة في اتجاه الجنوب أكثر، إذ طغت القطع الفخّارية المصرية والفلسطينية، وخاصةً تلك المستوردة من غزة.
تاريخ صور لم يُكتب نهائياً بعد، فالدراسات مستمرة والبعثة الفرنسية ـــــ اللبنانية ستعاود عملها في أوائل الصيف في محاولة منها لفهم حياة سكان تلك المدينة قبل 1500 و2000 سنة.