3 سنوات مرت على رحيل صاحب مكتبة مليون كتاب في بعلبك، السيد عبدو مرتضى الحسيني. مكتبة لم تزل تبحث عمّن يحولها إلى مشروع ثقافي، فيما يرفدها «الورثة» بالكتب في مناخ غير ثقافي يخيم على البلاد والعباد. مات «قديس» الكتاب كما وصفه سعيد عقل، وهو يحلم بأن تتحول مكتبته إلى مزار مجاني لطلاب المعرفة
عفيف دياب
«المكتبة تكبر. إنها مسؤولية أخلاقية لا تسمح لنا بإهمالها أو حرمانها الكتب الجديدة»، يقول جهاد مرتضى بعد مرور 3 سنوات على وفاة والده، السيد عبدو مرتضى الحسيني، الذي أفنى عمره في جمع الكتب والمطبوعات بمختلف لغات البشر على مدى 8 عقود، أتعبته في خلالها كثرة وعود تحويل مكتبته الخاصة إلى مشروع ثقافي، ومكتبة عامة لأهالي بلاد بعلبك ـــــ الهرمل وكل لبنان. مكتبة كانت «جهد وجهاد عمر» رفض السيد عبدو تحويلها إلى مشروع تجاري كان كفيلاً بأن يضعه في خانة «الأثرياء» ويضمن حياة هادئة لأسرته. يضيف جهاد: «لقد رحل والدي حاملاً همّ المكتبة وهمّنا معها، وها نحن اليوم نكمل رحلة الهمّ والتعب. همّ شراء الكتاب وحمايته. نحاول قدر الإمكان الحفاظ على المكتبة وصونها من أي سوء، لكن عملنا اليوم يبقى دون المستوى المطلوب أو دون مستوى اهتمام المرحوم والدي الذي كان يعيش بين الكتب والجرائد والمجلات، متنقلاً بين رفوف مكتبته الفريدة من نوعها في العالم».
أكثر من 10 ساعات تمضيها يومياً أسرة الراحل عبدو مرتضى الحسيني في متابعة شؤون المكتبة الموزعة على أكثر من قسم وجزء في طبقات المنزل العائلي أو في سوق بعلبك القديم، و«نحاول ألّا نفرّط بها. إنها إرث ضخم يرعبنا يومياً. حلم والدي بمكتبة عامة ورثناه عنه بعد رحيله. حلم لم يمت بالنسبة إلي، فالذي يصنع هذا العمل العظيم لا يموت». يقول جهاد المتنقل بين رسومه ولوحاته التي تتكدس هي الأخرى في جانب من المكتبة داخل المنزل العائلي و «الوقت ليس لمصلحة المكتبة، فنحن نعيش اليوم في لبنان في ظل مناخ غير ثقافي، وهذا المناخ لا يساعدنا في تحويل مكتبة عبدو مرتضى إلى مكتبة عامة، لقد ورثنا شيئاً أكبر من طاقتنا وإمكانياتنا في زمن دولة لا تفقه شيئاً من المعرفة، ووزارة ثقافة غائبة عن السمع وتعيش في مناخ غير ثقافي هي الأخرى». ويتابع جهاد: «بيع المكتبة أمر مرفوض عندنا. كان والدي على اقتناع تام بأن على الناس أن يتثقفوا، وهو اقتناع إنساني ألزمه بأن لا يحوّل مكتبته إلى مشروع تجاري. التزام نؤمن به نحن اليوم، وأصبح أكثر «أصولية» وتشدداً، وإذا أردت عنصرية. كتاب نريده فقط في بعلبك». ويتابع: «كان والدي خائفاً من أن تباع المكتبة بعد مماته، كان خوفاً مبرراً ومشروعاً لأنه لم يلمس اهتماماً رسمياً أو حزبياً أو شعبياً بما حققه لمنطقة بعلبك ولبنان. لقد مرت 3 سنوات على وفاته، والمكتبة شغلنا الشاغل. أمضي نصف وقتي متنقلاً في المكتبة، وما يبقى لي أمضيه في الرسم. لقد ولدت وعشت بين الكتب، وقد أورثني والدي شغفه في دعم المكتبة كل يوم».
يواظب جهاد مرتضى على شراء الكتب كلما توافر المال في جيبه و«لم أزل أقوم بأرشفة جريدتَي «السفير» و«الحياة» واستكمال مشروع والدي بأرشفة أعداد جريدة «الأخبار« منذ بدء صدورها في عام 2006 حيث تنضم إلى بعض أعدادها التي كانت تصدر في 1969، إضافة إلى رفدها بكميات من الكتب والمطبوعات وفق قدراتي المالية أو قدرات أفراد الأسرة. ونواظب جميعاً على شراء كل الدوريات التي كان الوالد يشتريها، ونضعها على رفوف المكتبة. إنه تقليد نحافظ عليه ونسعى إلى تطويره». مؤكداً أن «المكتبة لم تنقص كتاباً واحداً منذ وفاة والدي. لقد تحولت إلى هاجس يومي يقضّ مضاجعنا كما كان هاجس والدي الدائم. فوالدي بالنسبة إليّ كتاب أحفظه عن ظهر قلب، وأعرف قراءته جيداً. لم أره يوماً من دون كتاب. هذا الكتاب الذي أصبح مليون كتاب ومليون عبدو مرتضى الحسيني يحتاج إلى اهتمام الناس». ويقول وارث «هاجس» المكتبة: «للناس دور في رفع الصوت. فحين يرفعون أصواتهم يتحقق حلم عبدو مرتضى بتحويل مكتبته إلى مكتبة عامة في بعلبك». ويتابع: «منذ وفاة والدي، لم نر جهة رسمية أو حتى إننا لم نتلقّ وعوداً كما كان يحصل معه. فحين مات وماتت قبله الوعود، مات كل شيء إلا الكتاب هنا. فبعلبك ليست قلعة فقط، إنها كتاب بمليون كتاب، وقديس الكتاب، كما وصفه الشاعر سعيد عقل، كان يحلم بأن تتحول مكتبته إلى مكتبة عامة ومزار يومي لطلاب المعرفة والعلم والثقافة».
مكتبة عبدو مرتضى الحسيني التي أُلفت من أجلها عشرات اللجان والجمعيات الأهلية والثقافية على مدى 4 عقود ومُنيت جميعها بالفشل، تتجاهلها اليوم وزارة الثقافة اللبنانية، ومن خلفها أيضاً الجامعة اللبنانية التي يحق لها، وفق قول جهاد، أن ترسل طلابها وتطلق مشروع «أرشفة وفهرسة» المكتبة و«تكون مرجعاً مهماً لطلاب الجامعة وأبحاثهم ودراساتهم. فنحن مقابل فهرسة المكتبة نعطي للجامعة اللبنانية حق الاستفادة من كتبها ومراجعها لطلابها حصراً. لكن هذا المطلب الذي كان من أيام والدي، يبدو أنه صعب المنال أو لا يعني الجامعة اللبنانية بوصفها مؤسسة رسمية يجب أن تستفيد من هذا الإرث الضخم. فنحن لا نريد مقابلاً مالياً، بل مساعدتنا على فهرسة المكتبة». ويضيف جهاد بعد مرور 3 سنوات على وفاة والده: «لم نستطع إجراء إحصاء دقيق لعدد الكتب والمطبوعات، لكن جميع من زاروها أو اطلعوا عليها أعطوا رقماً يتجاوز مليون كتاب ومطبوعة، وهذا الرقم التقديري نحتاج نحن في المنزل إلى أكثر من عمر حتى نقوم بفهرسة المكتبة وأرشفتها. ففي المنزل الذي نعيش فيه استطعنا فهرسة جزء صغير جداً، لكن لا يمكن أن نمضي عمرنا في فهرسة مكتبة هدفها الأول والأخير الناس ومستقبل ثقافتهم». ويختم جهاد عبدو مرتضى الحسيني قائلاً: «مكتبة والدي جهد عمر كان يجب أن يكون من صنع دولة. لقد نجح والدي حيث فشلت الدولة ومؤسساتها الثقافية والتعليمية، فكل دروع التكريم والثناء على عمله لا يكفيان ثمن كتاب لم يزل يقاوم التقاعس الرسمي».


حلم أهل بعلبك

مات عبدو مرتضى الحسيني وأهل بعلبك يحلمون بأن يكتب اسمه على لوحة ترفع فوق مبنى ضخم وجميل مكتوب عليها «مكتبة عبدو مرتضى الحسيني العامة». فكرة بقيت حبراً على ورق في أدراج مؤسسات رسمية وأهلية. في 11 نيسان المقبل، أي غداً الأحد، سيكون الافتتاح الرسمي لثانوية «عبدو مرتضى الحسيني» الرسمية في مدينة الشمس، بعلبك. بناء جديد، وكبير، لكن حبذا لو كان أكبر ليضم بين جنباته محتويات المكتبة، والمليون كتاب ومطبوعة، فيستفيد في المقام الأول منها طلاب هذه الثانوية.