35 عاماً على الحرب. و5 أعوام على إقامة خيمة الاعتصام، ولا يزال الانتظار يحاصر أهالي الضحايا والمفقودين. لكن، أمس بعد كل تلك السنوات، ثمة ما تغيّر. سمع هؤلاء أول اعتذار علني، وجهاً لوجه، من أحد «المجرمين» سابقاً. هذا الاعتذار، المتأخر بعض الشيء، لن يكون الوحيد في حضرة الذكرى، فثمة اعتذار ثانٍ تطلقه «الهيئة الوطنية لدعم الوحدة ورفض الاحتلال» غداً عند مدافن ضحايا الحرب
راجانا حمية
«آسف لكلّ هذا».
خمسة وثلاثون عاماً ليأتي الاعتذار؟ خمسة وثلاثون عاماً، ليتجّرأ المسؤول عن ألم كثيرين في الحرب الأهلية اللبنانية سابقاً... والناشط الحالي في السلم الأهلي أسعد الشفتري على الوقوف أمام ضحاياه هنا في خيمة الاعتصام، وليقول لهم: عذراً عمّا فعلته بكم؟ أمس، وقف الشفتري أمام الكل. أمام الخيمة التي ولّدتها ذنوب الحرب اللبنانية. قال: «سامحوني». أصرّ على الجالسين بالصفح. طالبهم بمحاسبته، ولو بعد كل هذه السنوات. قبل أن يطلق اعتذاره، كان خائفاً من ألّا يقبلوه، وهو المذنب بحقّهم. لهذا، لم يُطلع أحداً على ما ينويه، حتى زوجته التي رافقته إلى الخيمة لإحياء نشاط «تنذكر تَ ما تنعاد» وذكرى 5 سنوات على إقامة خيمة الاعتصام. خاف من أن يشطبوا اعتذاره قبل أن يقوله. لهذا، رمى به... وخاف بعدئذ من رد الفعل الذي لم يشبه توقعاته. كان رداً جميلاً لا علاقة له بضجيج الحرب ولا بفعلته. قالته والدة أحد المفقودين، مريم الصعيدي، له ولكل من شارك «رد فعلنا هو وحدتنا، خلاصنا والسلم الأهلي». لكن، هل كان اعتذاره ذاك على قدر الدموع التي ذرفتها المفجوعات المرهونات للانتظار؟ هل سيعيد الروح إلى أوديت سالم التي غابت قبل تلك المواجهة بعام، تاركةً خلفها صورة وظلّ ولدين لا مصير لهما؟ وهل يكفي اعتذاره وحده؟ أين الباقون؟ وهم كثر. والدليل؟ 18328 قتيلاً و97144 جريحاً و9627 معوّقاً و19 ألف عملية خطف ومفقودون كثر لم توحّدهم مكابرة المسؤولين عن غيابهم عند رقم واحد. لكن، قد يشفي هذا الاعتذار بعض الغليل، إلّا أنه لا يكفي. تقول رئيسة لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين وداد حلواني. لكن، ماذا لو حضر احتفال الذكريين ـــــ الحرب والخيمة ـــــ أسعدين أو ثلاثة؟ تجيب حلواني: «لكان صار عنا حقايق كثيرة، وعندها حكماً الدولة بتتحاصر بشهاداتهم وتصبح ملزمة بحمايتهم كشهود على الذاكرة وتتجرأ على الحل».
أمس، حضرت الذكرى محمّلة باعتذارين وغياب: اعتذار الشفتري عن أيام سوداء لا تزال مستمرة إلى الآن، واعتذار النائب غسان مخيبر عن تقصير الدولة اللبنانية تجاه 19 ألف عائلة تعيش على ذكرى الخطف وخطوط التماس... وغياب أوديت سالم، بعد رحلة طويلة جداً مع الانتظار.
اعتذروا. انتهت أوديت. انتهت الحرب... في الشكل. لكن، السؤال لم ينتهِ: ... و«الغيّاب»؟ ماذا نفعل بهم؟
أمس، كان هذا السؤال محور كلمات المتعاقبين على الكلام في الذكرى البشعة. 17 متكلماً، لم يكن بينهم سوى سياسي واحد، هو النائب مخيبر. حضر لا ليمثل الدولة بل تضامناً مع الأهالي.
17 كلمة، والمطلب واحد: الكشف عن مصير المفقودين والمخفيّين قسراً من خلال إنشاء هيئة وطنية محايدة تتولى ملفهم، وصولاً إلى كشف الحقيقة كاملة.
كانت الهيئة هي السمة المشتركة بين الجميع، لكنها لم تكن الوحيدة. ثمة مطالب أخرى. مطالب لا تعدو كونها رجاءً بردّ الأحبّة ومحاكمة الخاطئين، ليس على طريقة المشانق، بل على طريقة البوح. قول ما في قلوبهم قبل أن يمحوه النسيان والموت، كما حصل للحقيقة التي دُفنت مع إيلي حبيقة. يريدون، كما قالت عضو لجنة الدفاع عن الحريات العامة في نقابة محامي بيروت، ندى أدهمي، «أن تولي الدولة أولوية لقضيتهم من خلال الهيئة واستصدار قانون لحماية المقابر الجماعية التي ذكرها تقرير لجنة الحكومة قبل سنوات». بكل بساطة، دعت أدهمي إلى «الكشف عن مصير الضحايا، ليكون العفو الذي أصدرته الدولة اللبنانية بحق المجرمين سابقاً عفواً مسؤولاً وعادلاً».
الوزير السابق دميانوس قطّار الذي لم يحضر سياسياً، بل شاباً خُطف ذات يوم على يد إحدى الميليشيات، كان يريد أن يوصل صوته المطالب بـ«كشف الحقيقة لتبيان ما يسمّى الذكرى الحقيقية للمفقودين». بعد اعتذاره عن التقصير الرسمي، أمل مخيبر أن «تزول الخيمة، مع إيجاد حلٍّ عادل للقضية المجهول مصيرها». ولفت إلى أنه «إذا كان لا بد من العمل في ذكرى 13 نيسان، فهو العمل على إنهاء الملف من خلال تجميع الأدلة عبر الهيئة الوطنية، وكشف المصير، وصولاً إلى المصالحة الحقيقية».
للجامعة اللبنانية كلمتها أيضاً، هي التي خسرت الكثير من أبنائها على حواجز القتل على الهوية. وقد طالب الممثل عن رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة عادل خليفة بـ«إنشاء هيئة ضاغطة على المسؤولين كي يعطوا الأولوية للقضية».

تكريس حق المعرفة قانونياً هو مفتاح حل القضية

وحدها حلواني خرجت من مطالبة الدولة، وتوجّهت بجملة أسئلة «إلينا جميعاً». سألت: «هل يكفي أن نتذكر الحرب يوماً واحداً وننساها 364؟ هل يُعدّ استمرار خيمتنا علامة صحية بحقنا؟ تُرى لو أتى كل واحد منكم مرةً واحدة في الأسبوع أو الشهر إلى خيمتنا، فهل تعتقدون أن المسؤولين سيجدون أنفسهم في موقع الاستجابة الجدية لمطلبنا؟». تنهي استفساراتها بجواب تأمل من خلاله أن «تنتفي الحاجة إلى استمرار وجود الخيمة». أما الشفتري، فيضع نفسه في تصرّف الأهالي، قائلاً: «حطّونا أمام الأمر الواقع ونحن مستعدون لقول كل ما يساعد على الحقيقة». لكن، وضعه أمام الأمر الواقع، دونه شروط بـ«النهار يللي بيصير فيه آلية وطنية تضمن اعترافنا».
من جهته، طرح وكيل اللجان الثلاث لأهالي المخطوفين والمفقودين، المحامي نزار صاغية، «السؤال الكبير»: «كيف يصبح حق المعرفة موجباً قانونياً؟»، مؤكّداً «أنّ تكريس هذا الحق هو مفتاح الحل». أما رئيس لجنة سوليد، غازي عاد، فلفت إلى أنّ الخيمة ستبقى شاهداً على لامبالاة المسؤولين، ولن تُقفَل إلّا بمعرفة مصائر كل المفقودين. كذلك، تخلّلت النهار الطويل كلمات كثيرة، دعا من خلالها المتكلمون إلى توزيع الخيم على الأراضي اللبنانية كلها. أما الأهم؟ فهو إقفال الجرح باعتراف المشاركين في الحرب من خلال قول ما يملكون. والطرق؟ كثيرة، قد يكون آخرها البريد، إن لم يفلحوا في الاعتراف وجهاً لوجه، كما فعل الشفتري.