ضحى شمسالفيلم الذي نبشه أحد الزملاء على يوتيوب كان مدهشاً. فالصياد الذي جلس في قاربه وسط نهر ما في عتمة حالكة إلا من ضوء المصباح اليدوي القوي، كان قد تحوّل نوعاً من «مايسترو»: يشير بعصاه الضوئية تلك إلى المياه فيتجمع سمك عند السطح، ثم يشير بالضوء إلى الشمال، فيقفز السمك كالصاروخ من المياه «طائراً» في الاتجاه ذاته، ثم يشير إلى اليمين، فيندفع السمك بقوة قافزاً إلى اليمين. بدا أن الرجل نفسه لا يصدّق ما يحصل. كان السمك يتطاير، حرفياً، حوله في تلك العتمة. كنا نراه يلمع أثناء مروره أمام ضوء المصباح اليدوي الذي كان الصياد يمسك به مشيراً في كل اتجاه، وهو يكاد يموت من الضحك والدهشة والحماسة. ثم، خطا خطوة إضافية، فأخذ يشير بالقنديل إلى داخل القارب. فأخذت السمكات المستميتات بالغريزة للحاق بالضوء، ترتطم الواحدة تلو الأخرى داخل القارب، متراكمة في كومة وهي تنتفض انتفاضة الموت اختناقاً. لم يكن الصياد يمسك حتى بصنّارة، كان كل ما عليه أن يفعله هو أن يشير بمصباحه، كأنه ملاك موت السمك، فكان هذا الأخير يقفز إلى حتفه عند قدمي الصياد، لا بل إن قوة الاندفاع والسرعة اللتين كان يخرج بهما من المياه كانتا تجعلانه، أحياناً، يرتطم بوجه الرجل حين كان الضوء يحاذيه، كما لو كان انتقام طلوع الروح.
أما لماذا أحببت أن يكون الأمر كذلك؟ فلأنني، برغم ضحك الوهلة الأولى، بدا لي أن الصياد كان ممسوساً بنوع من الشر لم أكن أستطيع تحمّله. كان هناك استمتاع ولذة في ما يفعله. كان يستخدم تفوّقه كإنسان، للسخرية من حيوان مسكين لا يملك دفاعاً عن نفسه إلا تلك الغريزة. وإن كان إشعال الضوء ليلاً حيلة معروفة لصيد السمك، أقصد ذلك النوع الذي برمجته الطبيعة على اللحاق بالنور، إلا أن شيئاً ما كان يجعل من «مزحة» هذا الصياد منفّرة. فهو، إلى تذاكيه، لم يكن يصطاد لأنه جائع. لم يكن يصطاد ما يحتاج إليه. كان يتلاعب بالغريزة التي جعلتها الطبيعة فينا لحمايتنا، بتحويلها سلاحاً ضد من يجب أن تحميه.
فالغرائز تشبه المنارات. غريزة البقاء، الأمومة والتكاثر، هي مصابيح الطبيعة التي تشتعل لأجلنا في غابات المجهول، نوع من ضوء يتّقد وحده، أوتوماتيكياً، ما إن تصل العتمة/ الخطر، حولنا إلى حدّ معين، كشعلة تحدّد المسار الآمن. التلاعب بوظيفة الغرائز، أليس أيضاً هو جوهر التعذيب؟ ألم يستخدم الخوف والجوع والعطش والرغبة في الحياة لتحويل أسمى ما يكونه الإنسان حين يقاتل من أجل حياة أفضل، إلى مخبر ضد أهله؟ وهذا ليس بشيء، ألم يخرج كوزو أوكاموتو، بطل عملية اللد، الياباني، من السجون الإسرائيلية، وقد أصبح يعوي ككلب حين يريد أن يطلب الطعام كما عوّده سجّانوه؟ طبعاً، نحن لا نتحدث عن التلاعب العلمي الذي يهدف إلى مكافحة الموت والمرض، ضمن حدود وقوانين، لكن أن يتلاعب بالغرائز لمجرد التسلية؟ هناك أمر منفّر وشرير وخطر في هذه «النكتة». والخطر في هذا، لمن قد يجدني مبالغة في الاستنتاج، هو ردة فعل المتلقّي. فأن يجد غالبية من رأوا هذا الفيلم أنه «ظريف»، قد يشير إلى نوع من التطبيع مع ممارسات لاأخلاقية تنتشر حولنا.
أليس أيضاً تلاعباً بالغرائز ما يحصل للناس في لبنان؟ أليس تضليلاً لغرائز البقاء أن تصوّت النساء لفؤاد السعد مثلاً الذي يسمّيهن «حرمة»، فقط لأنه ماروني؟ أليس تضليلاً لغريزة البقاء والدفاع عن النفس أن يصوّت الفقير في الطريق الجديدة لسعد الحريري لأنه سنّي «والله يرحم بيّو كان آدمي»؟ أليس تضليلاً للغرائز أن يصوّت محرومو الجنوب، (وبالتالي هم محرومون مرتين) لنبيه بري لأنه شيعي؟ والدروز لجنبلاط لأنه درزي وابن بيت سياسي؟ وما الذي تعنيه عبارة بيت سياسي؟ أليس الاسم الآخر للوراثة الإقطاعية، وهي الاسم الآخر للاستغلال؟ أليس تضليلاً للغرائز أن يطوّب فقراء دير الأحمر وبشري سمير جعجع قائداً عامّاً للقوات «غير المسلّحة» بزعمه؟
أليس تضليلاً مجرماً للغرائز أن يجهّل الناس ويفقّروا ويجوّعوا ويهانوا إلى درجة لا يعودون يفهمون عندها أن من يلوّح لهم بمصباح المذاهب، مرة تلو أخرى، ليس إلّا صيّاداً أنانيّاً لا يسعى حتى وراء سدّ جوعه؟ هكذا، تواصل جماهير السمك قفزها طائعة بالملايين تحت قدميه، إلى حيث يشير الضوء الكاذب، وهي تنتفض في كل اتجاه، مختنقة من طلوع الروح، والأبشع ظنّها أنها وصلت إلى برّ الأمان؟
السيناريو هو نفسه. تماماً كفيلم يوتيوب: عتمة الخوف، قارب الإنقاذ، ضوء يلوّح به صياد متلاعب بذاك السر الصغير لحبّ البقاء الذي وضعته الطبيعة فينا، ضاحكاً بهستيرية مرة بعد مرة، لأنه لا يصدّق كم هي ذاكرة السمك... قصيرة.