لا يجوز أن يموت طفل في فجر الحياة»، شعار لمركز سرطان الأطفال في لبنان تبنته «الأخبار»، انطلاقاً من مسؤوليتها الاجتماعية، فوقّعت مذكرة تفاهم تقضي بأن يعود مبيع أعداد 20 نيسان و20 أيار و21 حزيران لمعالجة طفل في المركز
راجانا حمية
متعب الوقوف أمام باب مركز سرطان الأطفال. في لحظة الوقوف تلك، لا يسع الداخل، الغريب، إلا تنفّس أفكارٍ تحاول تمثل الوجع الذي يعبث بجسد صغير لا يريحه علاج «الكيمو». تتزاحم الصور في الرأس أمام اسم المركز الممتد على طول الجدار الأمامي. صورة أطفال يجهدون للتأقلم مع حياة استثنائية. صورة والد لا يشبع من تقبيل المساحة الفارغة من الشعر التي خلفها السرطان في رأس طفلته. صورة المنتظرين انتهاء أطفالهم من جرعات العلاج الكيميائي. كلها تأتي دفعة واحدة. لكنها لا تدوم. فداخل المركز، يتحول الشعور بالألم شعوراً بالأمل والأمان تبثّه وجوه الأطفال هناك. لا تعود خصلات الشعر ضرورية، تصبح «البوندانا» أجمل. وتصبح عبارة «عم ياخد ابني كيمو»، عبارة أكثر من عادية، مصحوبة بعبارة أخرى: «نعم، هناك أمل» يقولونها لمزيد من الطمأنينة.
«نعم، في أمل». هي العبارة نفسها التي تقولها المديرة العامة للمركز هناء شعيب عند السؤال عن نسبة شفاء الأطفال من المرض. تضيف أن «نسبة الشفاء هنا تصل إلى 80%». وتقارن معدلات شفاء سرطان الأطفال بين عامي 1962 و2009 لتؤكد هذه النتيجة. فمثلاً بلغت نسبة الشفاء من سرطان اللوكيميا 80% العام الماضي، مقابل 4% في عام 1962، وكذلك بالنسبة إلى الغدد اللمفاوية التي بلغت 90% بعدما كانت 40%. أما بالنسبة إلى أمراض العين، فقد ارتفعت نسبة الشفاء من 75 إلى 90%، والجهاز العصبي من 10 إلى 59% والكلى من 50 إلى 95% والعظم من 30 إلى 70%.
تلك الخلاصة خرجت بها شعيب، استناداً إلى تجربة المركز الذي يحتفل في هذا الشهر بمرور 8 سنوات على إنشائه في بيروت. فماذا بعد؟ ما الذي يقدمه المركز؟ وكم من الأطفال المرضى يرعاهم ويوفّر كلفة علاجاتهم التي تصل أحياناً إلى حدود 40 ألف دولار للطفل الواحد سنوياً؟
80% نسبة الشفاء. معركة رابحة إذاً، لكنها تبدو ناقصة في بعض جوانبها، إذ يتكفّل المركز بعلاج 80 حالة سنوياً، فيما الإحصاءات تشير إلى 250 إصابة سنوياً لدى الأطفال. فما الذي يحصل لثلثي الأطفال الذين يصارعون وعائلاتهم المرض، متكبدين كلفة علاجه وعبء آلامه؟ وما يزيد الطين بلة أن وزارة الصحة، المفترض أن تكون مسؤولة، لا تتكفل بكامل علاجات المضمونين نسبياً، كذلك لا تتكفل بعلاج غير المضمونين، تاركة لله أمر تدبر مرضهم. وهنا، يشير رئيس مجلس الأمناء في المركز، بول إده، إلى أنه لا طاقة للمركز على تحمل العدد كاملاً، وخصوصاً أن الموازنة البالغة 12 مليون دولار لا تسمح إلا بمعالجة 80 حالة.
لكن ثمة استثناءات. يقول إده، سائلاً: «ماذا لو وقف عند بابك طفلان مصابان بالسرطان، فيما القدرة تحتم عليك إدخال أحدهما فقط؟». سيدخل أحدهما، فيما «الآخر نعدّ له ملفاً كاملاً يتضمن الكشف الطبي والفحوص، ومن ثم نرسله إلى مستشفى لديها الكفاءة نفسها، على أن نتكفل بتكاليف العلاج، وخصوصاً الأدوية». يضيف أن هذا التعاون «يكون مع المستشفيات التي تتبع بروتوكول سانت جود، أي آلية العلاج المتناسبة معنا».
80 حالة سنوياً. تُضاف إليها حالات تستكمل علاجها أو ترسل إلى المستشفيات الباقية. أي «نحو 200 حالة على الأقل سنوياً»، تقول شعيب.
وبحسب بعض الإحصاءات الخاصة بالمركز ما بين عام الافتتاح وعام 2009، كانت أكثر إصابات الأطفال بسرطان الدم 156 حالة. فيما يأتي سرطان الأنسجة الرخوة ثانياً بمعدل 115 حالة، والدماغ 93 والغدد اللمفاوية 62 وسرطان الشبكية 12. ومع نهاية العام الماضي، بلغ مجموع المرضى الذين عولجوا 621 طفلاً، أتمّ 366 منهم علاجهم.
أما من بقي والجدد الآتون سنوياً، فتتنوع طرق علاجهم بحسب حالتهم. فثمة حالات لا تستوجب أكثر من أخذ العلاج والعودة إلى المنزل، وهي التي تُعالج في القسم الخارجي للمركز الذي يستقبل يومياً نحو 50 مريضاً. أما في ما يخص الاستشفاء الداخلي، فهو يتطلب إبقاء الطفل المريض في المركز بين 4 و6 أيام للخضوع للمراقبة الطبية وتلقي العلاجات.
هنا، لا مكان إلا لـ17 مريضاً، على عدد الأسرّة التي يملكها المركز. وهو العدد الذي استطاع الحصول عليه عام 2008، بعدما كانت القدرة فقط 12 سريراً في مبنى مستشفى الجامعة الأميركية.. بالإيجار.
لا تبدو السعة كافية ربما، وخصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار «حسم وزارة الصحة 50% من الأسرّة التي كنا نستعين بها في بعض المستشفيات، وتأخر الضمان عن التسديد... نحو 16 شهراً، في الوقت الذي ندفع فيه كل التكاليف لمستشفى الجامعة بنسبة 100%»، يقول إدّه. وهذه النسبة هي «بدل أتعاب الأطباء، لكونهم من فريق المستشفى مع الممرضين والأطباء المساعدين، وتكاليف فحوص المختبر وغيرها من النفقات»، يضيف.
لكن، هذا الحسم تعوّضه وزارة الصحّة في تغطية بعض نفقات المضمونين من المرضى، وهو «ما نسبته 30% تكون بمثابة مساعدة». إلا أن ما تساعد به الوزارة «يكون عادة من واجباتها في كل دول العالم»، تقول شعيب. وفي لبنان؟ فنسبة ضئيلة، هي كما عرّفها إده مساعدة، لا تدوم. وأكثر من ذلك، غالباً ما تستعين وزارة الصحة بالخبرات من المركز وتغطية بعض نفقات العلاج، ولا سيما الدواء.

مسيرة صعبة تبدأ من لحظة اكتشاف المرض حتى الشفاء
بعيداً عن الوزارة، يبدو من الصعب التكهّن بحال الأطفال المرضى بالسرطان في لبنان، وخصوصاً إذا كان المركز وحده من يوفّر العلاجات مجاناً لغير المضمونين، وتغطية الفارق للمضمونين. أما سواه، فمراكز لا تملك القدرة على تغطية نفقات علاج باهظة.
مسيرة صعبة. تبدأ من لحظة اكتشاف المرض حتى الشفاء... أو الموت. أصعب ما فيها، إخبار عائلة الطفل بمرضه التي يتكفل بها المدير الطبي للمركز الدكتور ميغيل عبود أو أحد الأطباء المتابعين معه. لكن ثمة ما هو أصعب، وهو إخبار الطفل نفسه بحقيقة هذا المرض.
وتعتمد طريقة الإخبار على عمر الطفل ونضجه وفهمه، مع مراعاة حالته النفسية. كل ذلك، يجري من دون الحديث عن نسبة الشفاء أو عدمه.
من هنا، يبدأ الأطفال رحلتهم مع مرض السرطان. قد تستغرق رحلة علاجهم، مهما كانت نتائجها، ما بين 3 و5 سنوات. وخلال تلك الفترة لا يكون الطفل وحيداً، فهناك العائلة والفريق الطبي النفسي المرافق. فبعد تشخيص المرض، تسير منال القزي، المعالجة النفسية في المركز، مع الطفل وأهله. تخبرهما في كل لحظة بماهية المرض وتفاعلاته وطريقة العلاج من خلال الصور. لكن، ماذا لو حلت الكارثة، وساءت حالة الطفل؟ عندما تسوء الحالة إلى حدٍّ لا يعود العلاج قادراً على إيقاف المرض، يجتمع الفريق مع العائلة لإخبارهم. هنا، لا تعود التهدئة هي الهدف، إذ يترك المجال مفتوحاً أمام الأم للسؤال والتعبير عن الانفعالات. فما عاد الوقت كافياً. ثمة ما يجب عمله لعبور مرحلة «مريحة، أقله في تخفيف العبء المادي عن الأهل»، تقول شعيب. لذلك، كان لا بدّ من البحث عمّا يعين هذه الرحلة على إكمال طريقها على نحو لائق، عبر توفير الموازنة الكافية للعلاجات، وهي موازنة تقوم على تبرعات المواطنين. ومن دون هذه التبرعات، لا علاج ولا من يسألون عن توفيره.


هدايا في المناسبات
ثمة طرق كثيرة لمنح الأمل لأطفالٍ، هم بأمسّ الحاجة إليه. من دونه، لا عودة للحياة، التي كانت طبيعية، قبل أن يفعل السرطان فعله في الجسد الصغير. وقد تكون إحدى طرق هذا الأمل هي برامج التبرعات التي تكوّن موازنة المركز العلاجية. ومن هذه البرامج: امنح الأمل وشركاء في الحياة وmath – a – thon وهو البرنامج الموجّه إلى طلاب المدارس وكن راعياً لطفل وتسمية الوحدات وهدايا في المناسبات والتبرّعات الشخصية. يضاف إلى هذه البرامج نادي الأصدقاء.
يستهدف برنامج «امنح الأمل» الأفراد. فمن خلاله، يملأ المتبرّع استمارة، يقول فيها إنه يريد «أن يخصص للمركز مبلغاً مادياً معيناً، ومن ثم يعمد إلى توكيل المصرف بسحب هذه القيمة من راتبه ووضعها في حساب المركز»، حسبما تشير المديرة العامة للمركز هناء شعيب. يشبه هذا البرنامج بعض الشيء برنامج «شركاء في الحياة»، وإن كان الفارق يكمن في أنه موجّه إلى الموظفين. وهنا، يقوم المركز بزيارة إحدى الشركات وشرح أهداف المركز، يلتزم بعدها الموظف باقتطاع القيمة التي يراها مناسبة من راتبه، على أن تقوم الشركة بوضعها في حساب المركز شهرياً.
أما برنامح Math –a- thon، فيستهدف طلاب المدارس. لا يتبرع الطفل للبرنامج مباشرة، إذ إن تبرعه مشروط بحل 50 مسألة رياضية من الكتاب الذي يوزّعه المركز عليهم. سعر المسألة 500 ليرة لبنانية. قيمة لا بأس بها، ولكن للشروط تتمة، إذ يحتم على الطفل أن يبيع مسائل كتابه للأقارب وأفراد العائلة فقط.
من يزر مركز سرطان الأطفال في لبنان يجد في إحدى طبقاته رسماً لقوس قزح. في كل لون من ألوان هذا القوس، ثمة أسماء محفورة. في كل يوم تزيد اسماً. لكنها ليست أسماء من يدخلون للعلاج، إنما هي أسماء لمتبرعين بثمن علاج كلفته تتخطى 40 ألف دولار سنوياً. كلفة قد تحفظ حياة طفلٍ مهددة بالغروب في أي لحظة. ويمكن أن تكون هذه المساعدة التي يطلقون عليها «كن راعياً لطفل» صالحة لمدة سنة أو حتى أكثر ريثما ينتهي العلاج، وذلك تبعاً لرغبة المتبرع في بقاء اسمه في قوس قزح!
ثمة طريقة أخرى للمحافظة على الاسم على نحو دائم، مقابل التبرع بكلفة علاج أكثر من طفل دفعة واحدة. وتحت هذا العنوان، قدّم المركز برنامجاً يحمل اسم «تسمية الوحدات». من خلال هذا البرنامج، يتكفّل متبرع واحد بعلاج طفل لسنة أو أكثر من خلال إطلاق اسمه على إحدى وحدات علاج المرضى الخارجي بقيمة تراوح بين 50 ألف دولار أميركي و500 ألف دولار.
قد لا يكون مهماً إبراز هوية البعض كمتبرعين، لذلك يوجد في المركز برنامج «التبرعات الشخصية»، وهو البرنامج الذي يتبرع من خلاله أي شخص، يمكن أن يكون زائراً للمركز أو أي شخصٍ آخر يتم الاتصال به أو ترسل إليه رسالة إلكترونية، يسأل من خلالها إن كان يرغب في التبرع لطفلٍ مصاب بالسرطان؟ هذا السؤال سيكون المفتاح للحفاظ على وسيلة الاتصال بهذا الشخص، ليكون حاضناً لطفل في مسيرة علاجه، أو على الأقل في بعض محطاتها. ولا تحدد القيمة لهذه التبرعات، فهي تخضع لرغبات المتبرع وقدراته.
ثمة من لا طاقة له على التبرع بقيمة كبيرة، لكنه يرغب في أن يكون متبرعاً، ولو بثمن وردة. ولهذا السبب، ابتكر المركز برنامج «هدايا في المناسبات»، يستطيع من خلاله بعض الأشخاص تحويل المبالغ التي يجمعونها من لائحة الهدايا لمناسبة زواجهم أو ولادة طفل أو معايدة إلى حساب المركز.
وهناك آخرون لا طاقة لهم على التبرع بأي شيء. لكن، لهم أدوارهم. هؤلاء يمكن أن يكونوا من «نادي الأصدقاء» لأطفال السرطان في لبنان. قد لا يستطيعون دفع تكاليف «الكيمو»، لكنهم قادرون على الترويج لقضية المركز من خلال ابتكار مشاريع لجمع التبرعات مثلاً.
لا تنتهي لائحة التبرعات التي تتكوّن منها الموازنة عند هذا الحد، هناك أيضاً مبلغ المليون دولار الذي يمنحه مستشفى سانت جود لأبحاث المركز، إضافة إلى العشاءات السنوية في لبنان وخارجه. في لبنان وحده، يضيف عشاء المركز السنوي «مليون دولار إلى الموازنة»، تقول شعيب.

تبلغ حاجة المركز للمال شهرياً مليوناً و100 ألف دولار
ثمة مليون آخر يجمعها المركز من النشاطات التي يعود ريعها للأطفال في عدد من المؤسسات، يضاف إلى ذلك كلّه منتجات المركز، أو ما يسمّى سوق المركز. ويتضمن بعض الأشغال اليدوية من «أساور وقلائد وبطاقات المعايدة والمفكرة اليومية وبعض القصص التي كتبها شباب ومصابون بالسرطان».
إلى هذا، هناك الحفلات التي تقوم بها الشركات ويعود ريعها لدعم المركز. أما عن طريقة التبرع، فهي متاحة من خلال وسائل عدة: إما «أونلاين» من خلال الموقع الإلكتروني للمركز أو المواقع الإلكترونية للمؤسسات التي لها صلة تعاون مع المركز. إما أن تكون عبر المصارف. أو في أحسن الأحوال من خلال «call for life» 1417، وهو الخط الساخن.. للمتبرعين من أجل حياة طفلٍ لا ينقصها سوى توفير تكاليف علاجها.
لكن، رغم هذه البرامج، قد لا ينجح المركز في بعض الأوقات في الوصول إلى الهدف المنشود. لا تكتمل الموازنة أحياناً، وهنا يصبح لزاماً تقنين النفقات من جهة، وإبقاء المستوى العلاجي على حاله من جهة أخرى. وهو ما حصل خلال حرب تموز، فكان على العاملين في ذلك الوقت تكثيف البرامج التي تأتي بكمّ وفير من التبرعات والتخفيف من تلك التي لا تأتي حتى بكلفة تنظيمها، آخذين بعين الاعتبار تأمين حاجة المركز الشهرية البالغة مليوناً و100 ألف دولار.
كل شيء سيبدو مقدوراً عليه، اللهم إلا انقطاع بعض التبرعات. لذلك يبدو الهدف الأهم من التبرعات هو استمرارها لضمان استمرارية العلاج. فهنا، حياة طفل على المحكّ. لا الضمان الاجتماعي ينقذها. ولا وزارة الصحة. فقط استمرارية التبرعات. فتذكروا دوماً أنه «لا يجوز أن يموت طفل في فجر الحياة».
راجانا...