مصطفى بسيوني
تراه حاضراً بين العمّال المضربين في منطقة المحلة. ثم تراه مع الموظفين المعتصمين أمام مجلس الوزراء. ثم يباغتك في موقع حادث قطار مروع. حسين عبد الغني لم يعفِه مركزه ولا خبرته المهنية التي تجاوزت ثلاثين عاماً، من الوجود في موقع الحدث أينما كان. الإعلامي المخضرم ومدير مكتب قناة «الجزيرة» في القاهرة، لا يكتفي بالإشراف على العمل، بل يعتبر أنّ الدور الحقيقي للصحافي هو أن يكون حاضراً حيث يتوقّعه الناس.
يرفض عبد الغني التقسيم الفئوي غير المعلن بين «صفوة» الصحافيين الذين تراهم في مؤتمرات الرؤساء، وآخرين يُحصرون بالمهمات الشاقة. يتحدث عن أدائه هذا قائلاً «لا يجوز اعتبار هذا تواضعاً أبداً. إنّها قواعد العمل الصحافي. أهمية الحدث لا تتوقف فقط على أهمية الأشخاص المشاركين فيه مثل مؤتمرات القمة، بل على مدى أهمية هذا الحدث بالنسبة إلى قطاعات واسعة من الناس وتأثيره على حياتهم. مثلاً، أظهرت التغطية الإعلامية لحادث انهيار صخرة في منطقة الدويقة (جنوب شرق القاهرة) أنّ الحادث أكبر من مجرد انهيار صخري. كما أنّ حادث قطار العياط في الجيزة أظهر مدى سوء أوضاع سكة الحديد التي تخدم الفقراء».
حسين عبد الغني الذي بدأ حياته المهنية في الإذاعة المصرية عام 1980، وانتقل بعدها إلى التلفزيون المصري، ثم «بي.بي.سي»، وصولاً إلى قناة «الجزيرة»... قطع رحلة طويلة في العمل الإعلامي جعلته يخلق توازناً خاصاً بين قواعد الموضوعية المهنية، والانحياز الاجتماعي الذي لا يتخلّى عنه. تقاريره الإخبارية التي تغطّي أحداثاً مثل الإضرابات والحوادث الضخمة، لا تخلو من نقد صريح لأوضاع اجتماعية وسياسية.
مدير مكتب «الجزيرة» في القاهرة بدأ نضاله في السبعينيات، ودخل السجن بعد معارضته الصلح مع إسرائيل
مع ذلك، هو يدعم نقده دوماً بمعلومات دقيقة بعيداً عن أي إنشائية أو أيديولوجيا. لقد جعل الوقائع والبيانات نقداً أقوى من أي موقف معارض: «دوري كصحافي محترف يقضي بضمان تدفق حرّ ومستمرّ للمعلومات والأخبار. منذ عام 1985. لا أهتم بانحياز سياسي بالمعنى الحزبي والأيديولوجي، لكنّي منحاز اجتماعياً للفلاحين والعمال والفقراء. مثلاً، لا أستطيع تقبّل فكرة أنّ أقل من 20 في المئة من المجتمع المصري يسيطر على أكثر من نصف الثروة في المجتمع. لكن عندما أغطّي حدثاً ما، أحرص على تقديم كلّ المعلومات، من دون أي انتقاء أو توجيه. الحياد البارد فكرة مضحكة. أنا مصري وعربي وأفريقي. هل أستطيع خلع هذا من وجداني؟ هل يمكن أن أنظر إلى القضية الفلسطينية مثلاً بحياد؟ سيكون هذا مجرد كذب ونفاق».
لقد بدأ الانحياز الاجتماعي والسياسي لعبد الغني في منتصف السبعينيات. وهي الفترة التي اهتز فيها المجتمع المصري حين حاد النظام الحاكم عن ثوابته فدخل عبد الغني السجن في عام 1978 إثر معارضته الصلح مع إسرائيل. يقول عن هذه الفترة «شهدت تلك الفترة التحاق قطاعات واسعة من الشباب بالعمل العام في مواجهة تغيير النظام خياراته والانقلاب على المشاريع القومية ونمو الثروات الضخمة غير المشروعة وإهدار مكاسب العمال والفلاحين. ساعتها، كنت مهتماً بالأدب والفلسفة. لكنّ الهجمة على المشروع الناصري دفعتني مع آخرين إلى خيار المواجهة».
انصرافه عن العمل السياسي المنظم لم يعفِه من الضغوط الأمنية في بلد يعتبر مجرد العمل الصحافي المستقل معاداةً للنظام. ومن نافل القول إن عبد الغني واجه ويواجه متاعب لا تحصى، بسبب إصراره على كشف الحقائق وتقديمها إلى الرأي العام: «حجبوا عنّا التراخيص ومنعونا من الوصول إلى مكان الحدث وحطّموا معدّاتنا واعتقلوا الصحافيين. التشهير الدائم هو بعض ما نواجهه، لكنّ مرجعنا الأساسي يبقى الرأي العام والمشاهدون. لذا لا يمكننا أن نتخلى عن التزامنا بتقديم الحقيقة. وبالمناسبة، لا ينحصر الهجوم على الإعلام المستقل بالحكومة فقط، بل إنّ بعض الأحزاب والقوى السياسية المعارضة تهاجمنا أيضاً لأنّ تغطيتنا لا تعجبها. لكن نحتكم دائماً للمعايير المهنيّة. علينا أن نسمع النقد طبعاً، وهو أحياناً نابع من مصلحة حزبية أو سياسية ضيقة».
بدايته مع الإعلام الرسمي المهيمن في مصر آنذاك، لم تنجح في قولبته أو إدخاله الدائرة المغلقة. لقد استطاع سريعاً تطوير أدواته الصحافية والإعلامية. وساعده في ذلك عمله كباحث في «مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»: «البحث العلمي ينمّي لدى الصحافي القدرة على التحقيق وصحافة العمق. وهو ما اكتسبته خلال عملي في المركز».
فرضت العولمة على الإعلام الرسمي العربي معايير بات يصعب الخروج عليها
هذه القدرة البحثية تمثلت في أفلامه الوثائقية التي كانت مرجعاً في حد ذاتها. شريطه عن أيمن الظواهري «من قصور المعادي لكهوف أفغانستان» (2001) اعتبره السلفيون مرجعاً لهم وطبعوا منه ربع مليون نسخة. شريطه الآخر عن حجاب الفنانات (1997) كشف المؤامرة الرجعية ضد الفن والإبداع في مصر. كما تنبأ في شريطه «الإخوان المسلمون في مصر» (2004) في عهد مهدي عاكف، تنبأ بأزمة الإخوان المسلمين التي تفجرت أخيراً. وفيلمه «الموالد.. إبحار في روح مصر الشعبية» الذي عرضته «الجزيرة» أخيراً، اعتبر بحق ملحمة شعبية. يقول عبد الغني: «الفيلم الوثائقي يقوم مقام الكتاب. كما أن الصورة تبقى أرسخ في الذهن من الكلمة. ولا يعني ذلك أنّ أحدهما يغني عن الآخر، فلكل دوره ووظيفته ولكن القاعدة الواسعة للمشاهدين تجعل الشريط الوثائقي المحكم والجيد ذا تأثير واسع».
بخروج الإعلام والصحافة عن السيطرة المطلقة للدولة في المنطقة العربية، تزايد بشدة تأثير وسائل الإعلام المختلفة في الأحداث الجارية. وصار وجود إعلاميين مستقلين عن الدولة وممتلكين أدوات مهنية راقية، أمراً ضرورياً للحفاظ على هامش الاستقلال وتوسيعه. وما لا تخطئه العين هو التأثّر الواضح للإعلام الرسمي بالإعلام المستقل في محاولة للبقاء. يقول حسين عبد الغني: «فرضت العولمة على الإعلام الرسمي الاقتراب من المعايير الدولية. فقد أصبحت هناك أصول متعارف عليها لا يستطيع الإعلام العربي الخروج عليها حتى في ما يتعلق بالأجور. هناك تجارب إعلامية خاصة مبشرة، لكنها للأسف ما زالت تخضع لابتزاز الدولة ولمالكيها من رجال الأعمال من جهة، ولقواعد السوق والربح من جهة أخرى. مع ذلك، فالتطور الذي شهده الإعلام العربي حتى الآن، مهمّ جداً وغيّر كثيراً في مجريات الأمور... بل إنّني أعتقد أن الفترة المقبلة ستشهد مزيداً من الهجوم على الإعلام المستقل».
يؤمن هذا الرجل برسالته، لذا يثق به الآخرون. وعبر مسيرة امتدّت ثلاثة عقود من العمل الإعلامي، أصبح حسين عبد الغني جزءاً من رسالة الإعلام الحر. وصار الإعلام كل حياته. لم يعد غريباً إذاً أن يكون أول الأسئلة التي تطرح عند وقوع حدث هام في مصر هو... أين حسين عبد الغني؟


5 تواريخ

1957
الولادة في القاهرة

1976
انضم إلى حركة اليسار المناهضة للصلح مع إسرائيل واعتقل بعد عامين

1980
بدأ حياته المهنية في الإذاعة المصرية

1997
عُيِّن مديراً لمكتب «الجزيرة» في القاهرة. وفي عام 2005، احتجزه الأمن المصري على إثر تغطيته تفجيرات سيناء

2010
بثّت «الجزيرة» فيلمه الوثائقي عن الموالد المصرية