جنائن العدوسية وخيمها البلاستيكية حوّلتها إلى «بلدة الأزهار»، وأكسبتها لقب «الجنة» بين جاراتها في الزهراني، بينما لم يمنعها غياب الدولة من تطوير زراعة الأزهار فيها وتعزيز صناعة المقطرات التي تشتق من بعضها
آمال خليل
على صغر حجمها وكثافتها السكانية، تنتج بلدة العدوسية أكثر من خمسين في المئة من مجمل إنتاج قطاع الأزهار في لبنان. وقد تبنّت البلدة هذا القطاع انطلاقاً من مبادرات فردية أعقبتها سنوات من الجهود الشخصية لتطوير التجربة.
ففي عام 1993، قرر المزارعان بشارة أيوب وفريد سرحال التحول من زراعة الخضار إلى زراعة الأزهار، لدى محاولتهما البحث عن بديل زراعي أكثر ربحية إثر الخسائر المتتالية التي منيا بها والكساد الذي حلّ بمواسمهما بسبب تفوّق العرض على الطلب والمضاربة الخارجية وفتح الأسواق. ولأنه «لا مكتب للإرشاد والتوجيه الزراعي في وزارة الزراعة»، ضرب الرجلان «عالخيرة» ضربتهما مستندين إلى خبرتهما بنوعية التربة في البلدة الساحلية ومناخها ومستعينين بتجارب من سبقهما إلى ذلك في جبل لبنان وكسروان.
نقشت مع بشارة وفريد بنجاح زراعة أزهار الجربيرا وبعض أزهار القطف الموسمية. وقد كان نجاحهما ضوءاً أخضر لباقي المزارعين الذين يمثّلون النسبة الساحقة من الأهالي الذين تنقلوا خلال المئة عام الأخيرة بين زراعة الحبوب على أنواعها والتبغ ثم الموز في الستينيات ثم بساتين الحمضيات وصولاً إلى الأزهار والفواكه شبه الاستوائية مثل الأفوكا والقشطة. تبدّل الهوية الزراعية للعدوسية وسهلها الساحلي «ارتبط دائماً بقرار شخصي من المزارعين الذين يجرّبون زراعات جديدة وفق الربح والخسارة» كما يشهد أبو الياس منصور الذي توّج أكثر من ستين عاماً من العمل الزراعي في زراعة زهر الايستموم. حتى اليوم، انضوى سبعون في المئة من العدوسيين في زراعة الجربيرا والايستير الصيني والليليوم والايستموم وعرف الديك والشاب العايق (الدلفينيوم) والمنتور والزنبق والبصليات، فيما بقيت زراعة الورد الجوري محدودة لأنها تحتاج إلى مناخ أكثر برودة. ويوضح بيار داوود أن زراعة الأزهار بدأت تنتشر في لبنان منذ بداية الستينيات «مرتكزة على شتول الزينة المنزلية (الكريتونيا) بداية قبل أن تتوسع إلى أزهار القطف الموسمية باستيراد أنواع من النباتات المزهرة من هولندا خصوصاً». ويشير صاحب مشتل تبذير الأزهار ومسؤول تعاونية مزارعي الأزهار في العدوسية المنشأة منذ عشر سنوات، إلى أن «الورد الذي يصل مهجّناً من الخارج، تحوّل وفق منطق التجارة من الشكل الحلو والرائحة الطيبة إلى حسبان طول حياته في المزهرية وعدد الأزرار التي تلدها الشتلة وعدد ورقات كل منها». معايير قضت على الورد البلدي ورائحته لمصلحة الشكل «ما يفسر فقدان أزهار المحال الرائحة، فضلاً عن أن عمرها قصير بسبب المبيدات والأدوية التي تستخدم في زراعتها». ويؤكد داوود على مشاكل القطاع التي تتقاطع مع أزمة الزراعة في لبنان عموماً، بسبب غياب السياسة الحمائية الرسمية، إذ «لم تستقبل البلدة في تاريخها مهندساً من وزارة الزراعة يتفقد أحوال مزارعيها ويوجههم ويدعمهم. فضلاً عن تضييق سبل تصدير إنتاج الأزهار إلى الأسواق الخارجية في مقابل عدم التشدد في منع التهريب من سوريا والاستيراد من العالم الذي يغرق السوق بالمنتج الخارجي ويكسد المحلي».
دورة الحياة الزراعية كانت تحدد رأس السنة في العدوسية بعيد الأم الذي تصرّف فيه البلدة معظم إنتاجها الذي بدأ للتو بالنضوج، وتكر من بعده سبحة الأعياد والأعراس التي لا تكتمل إلا بحضور الأزهار. إلا أن التغير المناخي وطغيان أيام الحرّ والصحو على فصل الشتاء، موسم نضوج الأزهار، غيّر في تواريخ روزنامتها حتى باتت تنضج قبل أوانها بشهرين أحياناً، إذ إن «غبار الطلع» الذي يسرّع في نضوج زهور أشجار الحمضيات والإكي دنيا واللوزيات، ويسميه المزارعون «هواء النشل» لأنه «ينشلهم»، أي ينقذهم، لهبوبه أثناء موسم تلقيح الأزهار، لم يعد، خلال السنوات الأخيرة، للنشل، بل أصبح لضرب الموسم. فهبوب رياح الخماسين مرات عديدة وفي غير وقتها خلال فصل الشتاء المنصرم، أدى إلى سقوط الأزهار عن أمهاتها، فلم ينضح سوى نصفها خلال الموسم. التغير المناخي أثّر أيضاً على صناعة ماء الزهر المشتق من زهر الليمون (البوصفير) الذي لم تكن كمياته كافية في بساتين البلدة.
إلا أن المشاكل الموجودة لم تثن المزارعين، ولم تغيّر من واقع زراعة الأزهار في البلدة التي سرعان ما احتذت بعض جاراتها بها، ما شجّع ثانوية السفير في الغازية على إقامة معرض الأزهار الأول من نوعه في المنطقة في السابع والعشرين من الشهر المقبل، تروّج فيه للأزهار التي زرعها الطلاب أنفسهم بإشراف مزارعين من العدوسية وتعرض أنواع المقطرات التي تصنع منها.