عادي»، كما يقول، عاد محمد مروة، (22 سنة)، إلى مسقط رأسه بالزرارية بعدما رحّلته ساحل العاج على نحو غير عادي، إثر دخوله السفارة الإسرائيلية لتسليم السفير رسالة بمطالب لا تقل عن تحرير فلسطين، الترحيل ليس نهائياً، فقد نصحه الأمن العاجي بأن «يصيّف ويرجع» بعد أن «يهدأ روع» السفير
ضحى شمس
يبتسم، فتظهر غمازتان ظريفتان في وجهه، وهو يؤرجح نفسه يمنة ويسرة في الكرسي الدوار الذي جلس فيه، مموّهاً بذلك، وعلى عادة الخجولين، توتره. فمحمد مروة، ابن الجنوب المهاجر إلى ساحل العاج مع والد هجرته الحرب من مهنته كأستاذ في مدرسة القرية بالزرارية، إلى العمل في «محصول الكاكاو»، لم يعتد أن يعطي مقابلات! لا بل يمكن القول إن الأمر برمّته كان يبدو له على شيء من الغرابة الباعثة على الابتسام. «وأيه»، هي محطة كلامه. يقولها وهو يتفحص الأرض بنظره، كمن يربح وقتاً لينظم أفكاره. ثم يتكلم، فتتقاطع عباراته تارة بالفرنسية وأخرى بالعربية، الاثنتان بلهجة جنوبية. ربما لأنه استقى فرنسيته من نطق الأفارقة، أهل البلاد، للغة المستعمر القديم.
هذا التوتر لم يكن يتلبسه حين ترك منزل أهله في برّ أبيدجان، أي ضاحيتها باللغة المحلية هناك، مجتازاً 270 كلم ووجهته واحدة لم يخبر حتى أهله بها: السفارة الإسرائيلية. «كنت هادئاً جداً، بل على شيء من البرود» يقول. من أين أتاه ذاك البرود في خرق «بديهيات» الخندق الذي ينتمي إليه، أي المقاطعة؟ ما هي مضاعفات اللقاء؟ كل الإجابات مؤجلة. المهم لقاء السفير الإسرائيلي، واسمه بني عمر، وتسليمه رسالة منه، هو المواطن اللبناني محمد مروة، تطالب دولته «بإعادة الاراضي العربية المحتلة». (انظر الإطار)
وكانت «الأخبار» قد نشرت في 19 آذار الماضي: «اعتُقل أحد الشباب اللبنانيين المغتربين في ساحل العاج من أمن السفارة الإسرائيليّة فيها بعد إقدامه على التحرك احتجاجاً على السفارة». وأضاف الخبر أن تحرك الجالية اللبنانية أفضى إلى تلافي الأسوأ.
بعدها علمنا أنه هنا، من زملائه في «اتحاد الشباب الديموقراطي» الذين انضم إليهم في اعتصام أمام وزارة المالية احتجاجاً على زيادة الضرائب. «كانت الفكرة في ذهني من فترة طويلة. قلبت السيناريوهات كلها. دققت في عواقبها علي وعلى الدولة التي أعيش من خيراتها، وعلى اللبنانيين هناك وعلى أهلي. لم أتحدث إلى أحد، وخاصة أهلي، بنيّاتي. ثم قررت أن أكتب رسالة، كنت أبحث عن تحرك سلمي مقاوم».
حسناً، خطط وكتب، وفي اليوم الموعود؟ يروي لنا «كان يوم أربعاء، دخلت السفارة. لا أعرف كيف تركني الحاجز الأول أدخل. على الحاجز التالي، وهو لأمن السفارات العاجي، أوقفني. قلت له أريد أن أقابل السفير. سألني إن كان لدي موعد. فقلت له: جئت لآخذ موعداً. فهو عدوي وأريد أن أسلّمه شيئاً. وقلت له إنني شاب لبناني. لم يصدق حتى رأى هويتي، ثم فتشوني فلم يجدوا سلاحاً. عندها جاء شخصان من الموساد». وكيف عرف أنهما كذلك؟ «لأنهما أبيضان. والأمن العاجي سود البشرة». ويضيف: «أعدت عليهما ما قلته. ثم سألاني إن كان لي شهيد في قريتي. فأجبتهما: ما في ضيعة بلبنان إلا فيها أسير أو شهيد بسبب إسرائيل. ثم سألني: ماذا تفعل لو عدنا إلى لبنان؟ قلت له: شو بكذب عليك؟ أكيد سأقاتلكم ونخرجكم كما فعلنا أكثر من مرة».
ثم؟ «رأى صورة غيفارا على حقيبتي. فسألني: من هذا؟ قلت: ولو؟ غيفارا. فقال: «كومونيست از نات غود» (الشيوعية ليست بشيء جيد). أجبته: «كومونيست از غود، وإسرائيل إز نات» (الشيوعية جيدة لكن إسرائيل ليست كذلك). ثم سألني: أأنت مصّر على مقابلة السفير؟ هل أنت مستعد للبقاء ست ساعات؟ قلت له: كل وقتي لكم. ثم ذهب وزميله ولم يعودا».
بعدها؟ عاد الأمن العاجي لتفتيشه فعثر معه على الرسالة، استأذنه أن يصوّر نسخة منها، ثم سمعه يقول لزميله «أرسلنا «فاكس» لتل أبيب وننتظر الجواب».
بالانتظار، ترك الأمن العاجي العنان لحشريته: «سألوني إن كان حزب الله ـرسلني مثلاً! ووعدني بأن يطلق سراحي لأنه: مبين عليك آدمي. قلت له لست بحاجة لمن يرسلني، فنحن نرضع المقاومة من أثداء أمهاتنا».
خلال الانتظار، سمع محمد موظف الأمن يخبر زميلاً له جاء لتوّه «شاب لبناني صغير يريد مقابلة السفير، لكننا لا نستطيع. فالسفير أصيب بالاضطراب منذ علم بوجوده، وهو ينهال علينا بالشتائم». يقول محمد وقد التمعت عيناه بالسرور: «اصطنعت أنني لم أسمع. ثم أخذوني لمقر الأمن القومي. قلت لهم: أريد تسليم الرسالة للسفير، فرفضوا. قلت لهم: انظروا ما يحصل! هو المعتدي ويخاف مقابلتي. ضحكوا وقالوا: ربما حاولت الاعتداء عليه لو رأيته. فقلت لهم لكني غير مسلح. كما أستطيع أن أقابله من خلف الزجاج، أو قيدوني لو شئتم. فقال لي: هذه هي الأوامر. فقلت: دوماج (يا للأسف)».
في مركز الأمن العاجي بدأ تحقيق آخر بدون موساد. معظمه عن علاقته بحزب الله، «فمن الطبيعي إن كنت مع المقاومة أن تتصل بها قبل مجيئك»، كما سئل: كيف يحتفل بعاشوراء؟ وطلبوا منه كل عناوينه على الإنترنت (لتحديد ما يسمى بالسلوك الإلكتروني: أي عرائض يوقع؟ من يكاتب؟ على ماذا يعلق؟). أعاد عليهم الشاب أنه مع المقاومة لكنه يساري علماني. لكن حزب الله إرهابي، قالوا! فأجاب: حزب الله يمارس مقاومة مشروعة «وأنا أيضاً». سألوه: «ثوري يعني إرهابياً»، فسأل هو المحقق: «صحيح؟ وكيف ترى مارتن لوثر كينغ؟ ألم يقم بثورة من دون ضربة كف وقتلوه؟ ماذا تقول بغاندي؟ وتلك الأفريقية التي رفضت إعطاء مقعدها في الباص لأبيض؟» (روزا باركس التي أطلقت حركة العصيان المدني في أميركا احتجاجاً على نظام الفصل العنصري). ويضيف: «لقد قال كينغ في خطابه الشهير «عندي حلم»، إنه يحلم بأن يأتي يوم يحكم فيه أميركا رجل أسود، والآن أوباما في السلطة: رجل أسود يحكم أميركا». يتأثر رجل الأمن الأسود فتدمع عيناه. ثم قال له: «أريد أن أهديك أغنية لمغني الراب (العاجي) تشيكن باه، اسمها لقد تقاسموا العالم». (لقد تقاسموا العالم/ دون أن يأخذوا رأينا/ قسموا أفريقيا/ خذ أفغانستان وأعطني باكستان/ حارب لجانبي أعطك قمحاً) فضحك المحقق.
في اليوم التالي سأله الأمن: أكيد لا علاقة لك بحزب الله؟ يتذكر محمد أنه «أصدر» بياناً على الفايسبوك لدى ترحيل الشيخ عبد المنعم يزبك (وهو مجنس) بطلب من الخارجية الأميركية «تأسفت فيه أن أميركا تقول لساحل العاج شو لازم يعمل».
لم يكن الأهل يعلمون بمصيره. طلب الأمن منه أن يتصل بأهله. عبارتان قالهما محمد لأبيه بالفرنسية: بابا أنا بالسفارة الإسرائيلية! سأل الأب مرة واحدة: شو؟ فكرر. لم ينبس الأب بكلمة. أقفل الخط وبدأ جولة اتصالات لحماية ابنه. اتصلتم «بالسفير اللبناني»؟ نسأله. فيجيب: لأ بالسفير الفلسطيني عوض يخلف لأنه صاحب بابا. للأسف لم يقم اللبناني بأي شيء». لكنه لم يتصل به! يجيب: «انتشرت الخبرية ولا شك بأن الأمن أرسلوا له تقريراً».

قلت لأبي على الهاتف: بابا أنا بالسفارة الإسرائيلية
كان مرجحاً أن يوقف محمد «كم يوم»، لكن بعد 3 أيام «بلغوني بالترحيل». يبتسم فتعاود غمازتاه الظهور: «ما كنت حاسس كثير صعبة. فكرت بسمير (القنطار) وأنور (ياسين) وسهى (بشارة)، اللي قعدوا سنين. قابلت أهلي مرتين لدقائق، كانوا مبسوطين (يبتسم)». اليوم التالي رافقه الأمن إلى المطار، سألوه إن كان يريد أن ينشر الخبر. فرفض. إذا لمَ أتى الجريدة؟ «لأمرين، يقول، الأول أن أوضح أن السفير اللبناني لم يفعل شيئاً، وثانياً لأن الشائعات انتشرت هناك من نوع أني اختلفت مع والدي فطلبت اللجوء للسفارة الإسرائيلية! أو أني أعمل مع الموساد وقد قبض حزب الله عليّ وسلّمني للأمن العاجي، والخبرية الثالثة أني فجرت نفسي خلص!».
ولو قبل السفير أن يراه؟ يجيب بعد تفكير: «كنت سأدعوه لمناظرة تلفزيونية. أكيد لم أكن سأصافحه، تماماً كما فعلت مع الموساد».
وماذا عن لبنان الذي يحرّم الاتصال بالعدو؟ يقول: «لم أكن ذاهباً لأطبّع. وأنا حاضر لأي محاكمة. هذه طريقة للمقاومة. أن تقول للرأي العام العالمي، نحن نريد السلام لكن إسرائيل لا تريده». يستذكر الشاب أن الأمن ودعوه بالقول: «صيّف بلبنان وريح السفير شوية ورجاع. شربنا سوياً بيرة قبل أن أطلع على الطائرة، وبصراحة أحدهم قال لي: أكمل».
وماذا سيفعل هنا في لبنان؟ فلا سفارة إسرائيلية هنا. يجيب بسرعة بديهة: والأميركية من شو بتشكي؟


مقتطف من نص الرسالةسأتكلم عن الجزء الأهم، وهو السلام، نعم السلام، فمحمد الدره لن يسامحكم، أطفال قانا لن يسامحوكم، أهالي الشهداء في كل الأراضي العربية كذلك، وهؤلاء لديهم شروط إذا وافقتم عليها فسنهديكم السنبلة وإذا لم توافقوا فسنهديكم ألف سمير قنطار وألف دلال المغربي وألف أنور ياسين وألف عماد مغنية: أولا: إنهاء احتلالكم أرض فلسطين، وأن تعودوا لشتاتكم. فأنتم كأي دين، منتشرون في جميع الدول، ولكن صهيونيتكم هي عدوّنا. ثانياً: الانسحاب من جميع الأراضي التي تحتلونها في جميع الأراضي العربية. ثالثاً، دفع التعويضات لجميع الدول التي تحتلونها والتي احتللتموها مثلما فعلت الدول الأوربية بعد الحرب العالمية. واعلموا جيداً أننا سنحاربكم بالسلاح، بالقلم، بالفكر، بالتكنولوجيا، بكل شيء لنهزمكم. فآن لكم أن تفهموا».