كان لأمين الريحاني أثره في نفس جورج شويفاتي، لكن المفكر والأديب الشهير الذي جال بعض القرى وتكلّم على طبيعتها، هو عكس «تلميذه» الذي أدمن التجوال، فزار قرى لبنان كلّها وتقصى أحوال أهلها. كان مدفوعاً بالانطلاق بعيداً
علي السقا
في صبيحة السادس من حزيران من عام 1998، استجمع جورج شويفاتي أنفاسه واستعدّ لأول خروج فعلي له من بيروت. ثماني سنوات على «انتهاء» الحرب الأهلية لم تكن بالنسبة إليه سبباً وحيداًً لإذكاء جذوة الانطلاق في نفسه.
جورج صاحب الذاكرة الطرية والمترنحة من ثقل صور الحرب، وجد، مصادفة، ذات يوم، أداة الانعتاق من الطوق الذي ضربته هذه الحرب حوله. ابن حارة حريك والطالب في إحدى ثانوياتها آنذاك، وقعت يده على كتاب «قلب لبنان» لأمين الريحاني. أعاد قراءة كتاب «المعلم الكبير الذي يعرّفك بجمال لبنان»، بحسب قوله، مرات عدة كأنما وقع على خريطة لكنز يهمّ باكتشاف محتوياته. هكذا، أقامت نفس جورج في الخيال واقتاتت به ردحاً من الزمن لحين اعتزامه النفاذ من الخيال إلى الواقع.
سلك الطريق من حارة حريك إلى قضاء بعبدا، ولم يكن في جعبته سوى الخريطة السياحية لبولس بولس وقنينة مياه صغيرة. راح يجوب أرجاء القضاء الذي كان يتناهى إلى مسمعه أثناء الحرب أخبار تهجير بعض أهله من قراهم التي رأى كيف أضحت «مقفرة لا حياة فيها». راود جورج شعور قديم بإمكان البحث عن جذور عائلته في تلك المنطقة أيضاً. حاول، لكنه لم يفلح في فك طلاسم الوصول لأصل العائلة ومنبتها، حتى اكتفى بالمقولة القديمة التي تقول إن كنيته «الشويفاتي» تعني أن جدّه من بلاد الشويفات.
«كل هواية تتحول مع الوقت إلى مهنة، تفقد متعتها»، يقول جورج الذي يرفض فكرة أن يصبح دليلاً سياحياً. لا يسعى إلى تخطي صفة «الجوال الوحيد» التي أطلقها على نفسه ومهر بها كتابه الذي لم يبصر النور بعد. كتابه هذا مليء بالرموز والإشارات وبعض الخرائط. «هو أشبه بدليل» وغيره «أحسن منه»، يقول خجلاً، لكنه رغم ذلك، حصيلة أربع سنوات متتالية من التجوال في لبنان شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً.
كان صدره مفعماً بمزيج غريب من الأحاسيس لحظة خرج من المدينة قاصداً الجبل. لم يجد ما يقاربها في الشبه سوى إحساسه عندما وصل إلى الناقورة إثر التحرير مباشرة: «كان كل شيء جديداً، كأنه يلمع، الهواء الذي تنشقته لم أتنشق مثله من قبل. حتى البحر كان غيره».
«الجوال الوحيد» تعرض للتحقيق مرّتين
هكذا، أخذ جورج، أو «الجوال الوحيد»، يمضي وقته طائفاً في القرى داخل كل قضاء. انتهى من قضاء بعبدا ثم قرّر أن يشق طريقه باتجاه الجنوب الذي كان لا يزال تحت الاحتلال. كان يقطع مسافات طويلة سيراً على الطرق الأسفلتية التي تربط القرى بعضها ببعض، محاولاً أن يجعل سيره التفافياً بما يكفل له العودة إلى نقطة الانطلاق. لكنه، رغم تحديده وقتاً للبدء والانتهاء من المسير بحيث لا يضطر إلى المبيت خارج بيته، كان خروجه القسري عن الطريق الأسفلتية إلى البرية بدافع الاكتشاف يؤخره حتى يباغته الظلام، فيضطر إلى المبيت بعيداً عن منزله: «اضطررت أحياناً إلى المبيت في البريّة، حيث أُكمل تجوالي صباح اليوم التالي. ومرات كنت أنام في أحد المنازل التي يأبى أصحابها أن أقضي الليل في العراء».
متعة الاكتشاف التي تملّكت جورج لم تقتصر متاعبها على المبيت في العراء، وهي أخف وطأة بكثير من تلك التي بلغت مراتٍ عدة، بأشكال مختلفة، حدّ المخاطرة بحياته. كانت المرة الأولى التي يصل فيها إلى آخر النقاط المحاذية للشريط الحدودي، قبل أن يعود أدراجه متجهاً ناحية الشمال والبقاع. لكن بوصوله عاد ليتجه جنوباً بعد التحرير ويكمل في شهرين متتاليين ما كان قد فاته قاطعاً الطرقات الترابية: «وأنا أمشي في محاذاة الألغام، حتى إني وصلت إلى حدود مزارع شبعا نزولاً من جبل الشيخ». أو أثناء وجوده في جرود الضنية في حمأة المعارك.
بين جورج والمقاومة قصص كثيرة، بدا فيها شاباً مشاكساً أكثر منه مستكشفاً: «في عام 1998 اشتبه بعض رجال المقاومة في الجنوب بهروبي من جيش لحد. ساقوني إلى أحد الأودية للتحقيق معي. والطريف أن المحقق عبّأ استمارة كانت بحوزته قبل أن يقول لي: «شكلك شاب رياضي وحقك تروح مطرح ما بدك، ما بدنا نطول عليك، بس هيدي إجراءات روتينية، الله يسهلك». عام 1999، أثناء تجواله في البقاع «دخلت من طريق الخطأ إلى معسكر تدريب، اقتادوني للتحقيق أيضاً حيث طلب مني المحقق أن أرسم خريطة للمنطقة التي أسكنها ثم أمرني بأن أبصم بالأصابع العشر، وعندما تأكد من صدق كلامي أخلى سبيلي».
كل هواية تتحول إلى مهنة، تفقد متعتها
لم يكتفِ جورج بإشباع هذه الرغبة الجامحة في التجوال والاكتشاف، فكان يسجل، ولو باقتضاب تاريخ الرحلة ثم أوصاف القرى، مداخلها ومخارجها، تضاريسها، والأهم أحوال أهلها وعاداتهم، «حتى إني حولت عدداً من هذه الرحلات إلى خريطة استغرق الانتهاء منها ثلاثة أشهر». أضحى جورج مقتنعاً بأن جمال لبنان ليس أكثر من أغنية فيروزية أمام ما رأته عيناه من أحوال بعض القرى. يقول: «شاهدت الكثير من القرى النائية، المعدمة أو شبه المعدمة أو التي يعيش أهلها فقراً مدقعاً. كنت بعد انتهائي أبلغ عن حال بعض القرى، آملاً أن تثير نخوة المعنيين. لبنان غريب، تصور أن هناك قرية اسمها الطفيل في جرود بعلبك، وهي كحال قرى عدة في هذه المنطقة، لا يمكن دخولها إلا من سوريا أو عبر اجتياز مسافة 20 كيلو متراً في الهشير. كنت أتساءل: إذا أقفلت سوريا الحدود، فكيف سيعيش هؤلاء الناس بشيوخهم وأطفالهم؟». لكن جورج مقتنع أيضاً بأن اللبنانيين رغم فارق الدين بينهم وتفاوت حالاتهم الاجتماعية يشبهون بعضهم كثيراً.
عرقلت هواية جورج «المسار الطبيعي» لحياته، من التعلم إلى الوظيفة ثم الزواج، حتى إنها أثارت حفيظة أحدهم فسأله: «لماذا قضيت وقتك في التجوال؟»، فأجابه جورج ممازحاً: «كرمال بس موت وصير بالحياة التانية ما ضيّع وأعرف الطرقات منيح».
لم يكمل جورج دراسته الجامعية، لكنه عشق اللغة الفرنسية وعلّمها، وكان حبه لجان جاك روسو مثل حبه للريحاني. هو الآن عاطل من العمل، يصرح بأنه أصبح تعباً، وبأنه ينتظر تحرير مزارع شبعا لأنه متشوّق لاكتشافها بعدما راجع كل ما يتعلق بها. كانت سنواته الأربع، من عام 1998 إلى عام 2002، من أجمل سنوات حياته. حتى افترض أنه سيكون مستعداً لترك عمله لو كان موظفاً، وذلك ثمناً لتحقيق ما كان بالأمس خيالاً وأصبح مع الوقت الذي رشح بالعرق ما يمكن أن نسميه مجازاً... الحقيقة.


حلم لم يكتمل

يسعى جورج جاهداً ليجد من يشاركه حلمه في التجوال في القرى النائية التي لم تصل إليها عدسة الكاميرا. إذ لا يعقل التعريف بالمناطق السياحية وحدها، بل يجب لفت النظر إلى أوضاع هذه القرى والحال المعدمة لأهلها، على أمل أن تثير نخوة مسؤول أو عاطفة من يحبون المساعدة.