بشير صفيرلو لم نكن نعرفه من قبْل، لتوقعنا لقاءً برجل خمسينيّ. السنوات الحافلة ببرمجة مواعيد الجاز في بيروت، لا توحي بأن محرّكها شابٌ مولود عام 1978. في جلسة جمعتنا به قُبَيْل أمسية الفنان التونسي ظافر يوسف، روى كريم غطّاس، مؤسّس «ليبان جاز»، تفاصيل مسيرة قصيرة وحافلة، مستأذناً الكلام بالفرنسية: «أفهم العربية وأتكلمها، لكنني أعبِّر أفضل بالفرنسية». خلال المراهقة، لم تكن علاقة كريم غطّاس بالموسيقى استثنائية: «كنت أستمع إلى الروك والبوب. أما الجاز، فقصتي معه ارتبطت بحدث احتلّ مكانة كبيرة في حياتي». في سن العشرين، حضر حفلة لعازف الساكسوفون المخضرم أرتشي شب في باريس. خلال الحفلة، غاص غطّاس أبعد من النغمة، مستحضراً جذور هذه الموسيقى، وصور الاضطهاد والعنصرية التي عكسها العازف في أدائه. بقيت أصداء هذه الحفلة تطارده حتى أطلق مهرجان «ليبان جاز» عام 2004، وحقق حلمه بأن كان أرتشي شبْ بين الأسماء المشاركة في الدورة الأولى.
ولد كريم غطاس في بيروت وانتقل مع والديه اللبنانيين إلى السعودية، إثر اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. في الثانية عشرة، انتقل إلى باريس حيث تابع تحصيله العلمي، وحاز من جامعة الـ«سوربون» إجازة في التاريخ. خلال تلك الفترة، لم يزر لبنان إلا لماماً، ولا يحتفظ بأي ذكريات في وطنه الأم. بعد التاريخ، تابع دروساً في السينما، وعمل لفترة في قنوات تلفزيونية فرنسية. غير أنه بقي حائراً في اختيار مهنته الأساسية. حاول تعلم آلة موسيقية، لكنه اعترف بأنه غير موهوب لذلك. تحوّل بعد ذلك إلى عامل في الحانات ليلاً، مكرّساً وقته نهاراً للمساعدة المجانية في تنظيم الحفلات.
أكسبته تلك التجربة خبرةً في هذا المجال، ففكّر في إقامة مشروعه الخاص. لكن أين؟ «لم أكن أعرف شيئاً عن النشاط الثقافي في لبنان. خلال إحدى الزيارات القليلة، حضرت إحدى الأمسيات ضمن مهرجانات بعلبك. هكذا، قرّرت أن أصبح جزءاً من الحراك الثقافي في لبنان». تعرف غطّاس لاحقاً إلى أنماط موسيقية أخرى، مثل الموسيقى الكلاسيكية: «أحببتها كثيراً، لكنني أعترف بأني لا أجرؤ على تنظيم حفلات كلاسيكية في لبنان. النمط الذي أقدّمه أخف من الكلاسيك، مع ذلك، أنا مندهش لتقبل الجمهور لما نقدّم».
هكذا تقررت وجهة المهرجان: الجاز. أمّا الاسم فاستوحاه غطّاس من اسم إحدى شركتي الخلوي في لبنان، Libancell: «قررت أن أسمي المهرجان Liban Jazz كي تكون الموسيقى أداة وحاجة للتواصل أيضاً». حين قرّر العودة نهائياً إلى بيروت وتأسيس «ليبان جاز»، لم يكن يفهم العقلية اللبنانية. ماذا يريد الجمهور؟ ما متطلباته على المستوى الفني؟ بعد سنوات، لا يزال غطّاس يعاني هذه الحيرة: «ما أقوم به هدفه أولاً أن أرضي نفسي وأعكس هويتي الخاصة. ومن يتوافق مع ذائقتي، فسينضم إلى هذا العالم الفنيّ عبر المواعيد المغايرة للموجة السائدة».
هكذا انطلق «ليبان جاز» في صيف 2004 وتعاون مع مهرجان الذوق في دورتيه الأولى والثانية. استضاف أرتشي شب، وأنور إبراهم، وظافر يوسف، وغيرهم، قبل أن ينتقل إلى خطة البرمجة الدائمة ويستقبل الفنانين في «ميوزكهول». في 2006، عطّل عدوان تموز الدورة الثالثة من المهرجان. لكن كريم غطّاس غادر لبنان أثناء العدوان إلى باريس، وقرّر المقاومة على طريقته. «لم أقبل ما فرضه العدوان الإسرائيلي، ولم أفكّر أبداً في إيقاف المهرجان أو حتى تعليقه. هناك، نظمنا في أحد المسارح الباريسية حفلة تضامنية ضمّت 20 فناناً من الذين استضفناهم في بيروت قبل العدوان وبعده». عاد ريع الحفلة لدعم أعمال الإغاثة. يعلق غطّاس على الأحداث البربرية خلال العدوان: «الهدف كان مقاومة فكرة أن تجتاح إسرائيل لبنان، وتلقي القنابل على المدنيين بكل بساطة، كأن شيئاً لم يكن. قد لا يكون مهماً ما قمنا به، غير أنها مسألة مبدأ للقول إنه عندما يتوقف كل شيء، تبقى الثقافة ويبقى الفن».
بعد العدوان، استمر «ليبان جاز» في برمجة المواعيد الفنيّة. وفي أيار (مايو) 2009 انتقل إلى دمشق: «مع الأسف، سبّب لي الموضوع بعض المشاكل وتعرَّضْت لإهانات على الإنترنت من بعض المتعصّبين ضد سوريا. في المقابل، لقد تعرفت إلى المجتمع السوري عام 2006، حين غادرت لبنان إلى فرنسا أثناء عدوان تموز. اكتشفت نهم الجمهور السوري للثقافة الرفيعة. الحفلة الأولى في دار الأوبرا كانت ناجحة جداً، وسرّني تعاون المعنيين وترحيبهم. مع الإشارة إلى أنهم وافقوا على المشروع من دون أن يطلبوا حتى تغيير اسم المهرجان». واليوم يعد غطاس الدمشقيين بحفلتين كبيرتين (لويس سكلافيس في أيار/مايو ونيلز بيتر مولفار في أيلول/ سبتمبر).
من جهة ثانية، نسأله عن برمجة «ليبان جاز» التي تفسح في المجال للجاز الأوروبي (الفرنكوفوني بالدرجة الأولى)، وتتجه إجمالاً إلى الجاز غير الكلاسيكي، القائم على قواعد بعيدة أحياناً من عالم الجاز. يردّ غطاس: «من ناحية، أقرّ بأن ثقافتي أوروبية. ومن ناحية أخرى، الجاز هاجر إلى أوروبا منذ الخمسينيات وتطوّر كثيراً هناك. واليوم أهم مهرجانات الجاز في العالم تستضيفها فرنسا وسويسرا وإيطاليا وغيرها. هذه قناعتي الشخصية، وأنا لا أفرض شيئاً على الجمهور، بل أقدّم فسحة فنية تستقبل من يحب هذا التوجه بكل بساطة، وتحديداً الجمهور الشاب».
من الناحية المادية، يبدو كريم غطّاس واقعياً وصريحاً في قناعاته. يقول: «تعلمت من هذه التجربة أن الثقافة هي تجارة. ليس الشق التجاري هو الهدف الأول، لكنه يبقى هدفاً. والثقافة حاجة من حاجات المجتمع، كأي سلعة. وأي سلعة يمكن أن تكون جيدة أو سيئة. من هنا أولي اهتماماً كبيراً للحملة الدعائية التي تسبق الحفلات، وأتعاون مع مؤسسات تجارية لدعم المشروع. أنا ضد القول الذي يدّعي أن الثقافة يجب أن تكون مجانية وفي متناول الجميع. أتمنى أن تكون أو تصبح كذلك. غير أن أصحاب هذه النظرية غير واقعيين، وعاجزون أساساً عن تطبيقها. أنا أعتبر الثقافة استثماراً تنمويّاً. أعيش من هذه المهنة، وأريد لها الاستمرار والتطوّر».


5 تواريخ

1978
الولادة في بيروت

2004
أطلق مهرجان «ليبان جاز»

2006
نظّم حفلة في باريس لدعم أعمال الإغاثة بعَيد العدوان الإسرائيلي

2009
أطلق «ليبان جاز» في دمشق

2010
استضاف أخيراً ظافر يوسف
للمرة الثالثة في «ليبان جاز»