لا حدود للأحلام. هكذا يقولون. ويصرون على أن الحلم لا داعي لأن يصبح حقيقة، وإلا ما عاد حلماً. لكن، ماذا لو أصبح مطلب البعض أن يصبح واقعاً، كما هي حال الأحلام في مركز سرطان الأطفال. أحلام أقصاها العودة لحياة طبيعية؟
راجانا حمية
ذات يوم، تحقق الحلم. لبست خلود فستاناً أبيض وطرحة. حملت في إحدى يديها باقة الورد، وفي اليد الأخرى أمسكت يد كريم، وسارت به فوق الزهور البيضاء. لم يكن مهماً، حينها، شعور الحاضرين بالشفقة تجاههما. وهما المصابان بـ«هيداك المرض». كانا فرحين، رغماً عنهما وعن الوجع.
بعد ثلاث سنوات. مات نصف الحلم. لم يكبر كريم. بقي صغيراً. أتعب السرطان يده الصغيرة، فيما هي تتهيأ اليوم لآخر عملية جراحية تعيد إليها حياتها الطبيعية، وشعرها الأشقر الذي استبدلته يوم «زفافها» بـ «البرّوك».
بعد تلك العملية، ربما لن تعود خلود إلى مركز سرطان الأطفال، إلا لإجراء فحوص روتينية وزيارة الأصدقاء. غير ذلك، «لا شيء»، تقول.
تتذكر الصغيرة، التي بات لها من العمر 11 عاماً، الوجع الذي عاشته طوال السنوات الثلاث. لكن، رغم ذلك لم تبك ولم تعرف يوماً أن الموت لا يبعد كثيراً عن بعض مرضى السرطان. كانت تعرف فقط أنه «يوماً ما رح صحّ وإرجع إلبس الفستان الأبيض بس إكبر»، تضيف.
عادت خلود إلى حياتها الطبيعية، مبدئياً. حكت تفاصيل مرضها بعد تخطّي معظم مراحله. لكن، هناك من لم يقدر على أن يكون خلود. أن يقبل فكرة أن السرطان أصابه هو «من بين كل البشر»، وربما «رح يصح» منه.
في مركز سرطان الأطفال، ثمة من لم يجرؤ على القبول بالمرض. يرفض تماماً التحدّث عنه: كيف أصابه؟ وكيف يعيشه؟ والحلم بالشفاء؟ لا شيء سوى الانسحاب، أو الصمت في أحسن الأحوال. آدم ومريم، يريدان عيشه من دون «شوشرة». ربما هو الخوف أو صعوبة التأقلم مع الفكرة وحدها، ما يدفعهم للسكوت، وهو ما يلاحظه العاملون في المركز.
في «البلاي روم» أي غرفة اللعب، كان يبدو كل شيء مريحاً: ألوان الجدران المفرحة. ضحكات الأطفال حول طاولة الألعاب. إلا وجه ميرنا. كانت تجلس معهم، وفي يدها كوب الفخار الذي تلصق عليه أحرف اسمها. تقترب منها العاملة المتطوعة، وتهمس في أذنها «هذان الشابان يرغبان في التحدث إليك عن وجودك في المركز». تهز رأسها علامة الإيجاب، وتستدير نحوهما. ترفع سريعاً الكمامة إلى فمها، خوفاً من أن يكون أحدهما «مكرّب، وأنا مناعتي ضعيفة». ميرنا، التي لا تزال في «أول الطريق» مع السرطان، تجهد للتأقلم مع فكرته. تحفظ كل مسيرة رحلتها معه، منذ «أول فحوصات أجريتها عند الطبيب، وقالوا فيها إنني لا أشكو من شيء». يومها، فرحت ميرنا بالنتيجة، لكن الألم بقي على حاله، ما «دفع بوالدتي إلى إعادة الفحوصات في المستشفى». في تلك الفحوصات، ظهر السرطان. قالوا في حينها إنه «كيس مياه ويحتاج إلى عملية، لكن قبل ذلك علينا التأكد منه بصورة شعاعية تجرى في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت». في ذلك اليوم، بكت ميرنا قبل أن تعرف ماهية الكيس، عندما أنزلوها في مركز سرطان الأطفال في لبنان. كانت تعرف ماذا يعني أن يكون «الواحد مصاباً بالسرطان»، لكنها لم تقبل أن تكون هي هذا «الواحد». في الغرفة التي كانت تجري فيها فحوصها، سألت الممرضة «المركز بس لهيدي الحالات (السرطان)؟»، فأتاها الجواب «لا، لكل شيء». لم يطمئنها الجواب كثيراً، فاسم المركز لا يوحي إلا بشيء واحد: السرطان وحده لا شريك له. سألت ثانية «بدو يهرّ شعري؟». لم تجب الممرضة هذه المرّة، تاركة المهمة للمعالجة النفسية في المركز منال القزي التي قالت لها «رح نكون مثل كل هالولاد هون». شعرت بقرب السرطان من جسدها. بكت عندما تذكرت الحادثة، وخرجت من «البلاي روم»، تجرّ خلفها آلة الأمصال.
بقي هناك أحمد وعلا، يكملان رسم اسميهما على الفخار. أحمد، الصغير الذي أصابه المرض في الثالثة من عمره، بات الآن في السادسة من عمره. لا يعرف عن وجوده في المركز سوى أنه «sick» أي مريض، لا أكثر. لن يكون قادراً على وصف أوجاعه، بقدر ما تصفها أمه غيدا. أوجاعه غيرت حياتها كلياً، «كنا في أفريقيا نؤسس حياتنا، وعدنا لنكون هنا في المركز». تتذكر غيدا كل مراحل مرض أحمد، وخصوصاً مرحلة العلاج الكيميائي، عندما «سابقت السرطان وقصصت شعر ابني، كي لا أراه يسقط بفعل الدواء».
سقط شعر أحمد وعاد. أما علا، فقد بدأت لتوّها صراعها مع المرض. منذ شهر فقط، علمت الصبية بمرضها. أول سؤال طرحته على والدتها عندما أخبروها «ماما، لماذا أنا؟»، لكنها لم تجد إلى الآن من يردّ على سؤالها. تعبت علا، لكنها تؤمن بأنها يوماً ما.. لن تشتاق لبيتها. ستعود إليه وستحمل معها «كوب الفخار تذكاراً من المركز».