على مدى سنوات، علت أصوات الناس لمعالجة مشكلة تلوّث المياه في بعلبك ــ الهرمل، بعدما تخطت كل الخطوط الحمراء، واليوم، ارتفعت نسبة الإصابات بسبب هذا التلوث لتبلغ 70% من حالات الكلى، كما عثر الأطباء على «صخرة» في كلية مواطن من رواسب مياه الشفة
البقاع ــ رامح حمية
خبر إمكانية دخول عباس يونس موسوعة غينيس للأرقام القياسية، لم يتمكن من رسم ابتسامة على شفتي رجل أنهكه المرض وزادته الهموم المادية شحوباً. «فالحجر» الذي تكوّن في كليته على مر السنوات من ترسبات مياه الشفة، وإن أدخله باب العالمية، إلا أنه أوقف الكلية الوحيدة التي زرعها منذ 20 عاماً، وبات بجسده الهزيل بانتظار عملية زرع جديدة، بمجرد حل المشكلة المالية.
الأربعيني الذي يعمل موظفاً في شركة تعهدات فوجئ منذ 4 أشهر بأوجاع وارتفاع كبير بحرارة جسده، ليتبين أن كليته تحوي جسماً كبيراً جداً بالنسبة لكلية. إنه «حجر وليس بحصة» كما يصفها يونس، حيث بلغ وزنها 2600غ وبطول 22سنتم وعرض 15 سنتم. يونس يدرك تماماً أن سبب إصابته مياه الشفة الآتية من آبار نبع الوجوج في بلدة نحلة، والتي «تصل غالباً موحلة لدرجة أن لونها بني»، ما يضطرهم لإفراغ خزانات المياه وتنظيفها ثم تعقيمها.
وإذا كان عباس يونس قد انفرد بحجم ما أنتجته كليته من ترسبات، فهذا لا يعني أنه الوحيد المتضرر صحياً من نوعية مياه الشفة في المنطقة. فحالته غيض من فيض المرضى الذين تغص بهم مستشفيات المنطقة والذين يعانون مشكلة حصى في الكلى، ما يمثّل ناقوس خطر ينبغي إيلاؤه الأهمية اللازمة، وخاصة أن أطباء الكلى في المنطقة يؤكدون أن مرضى الحصى والترسبات يشكلون نسبة 65 إلى 70% من مرضاهم في منطقة بعلبك الهرمل، فضلاً عن ارتفاع نسبة الأمراض السرطانية وفي مقدمها سرطان الجهاز الهضمي والمثانة عند الصغار والمراهقين.
د. محمد عباس اختصاصي في جراحة وأمراض الكلى والجهاز التناسلي، أكد في حديث لـ«الأخبار» أن منطقة البقاع تشهد «ارتفاعاً لافتاً وملحوظاً» في نسب الإصابة بحصى الكلى والرمل، التي بلغت هذا العام 70% في البقاع الشمالي خاصة، وهي نسبة بحسب رأيه «خطيرة جداً» لأنها ترتفع سنوياً، عازياً السبب إلى تفاقم أزمة تلوث المياه في بعلبك ــــ الهرمل، والناجمة عن غياب أي نوع من «الرقابة من أي وزارة»، فالمنطقة حتى اليوم تخلو من أي محطة تكرير لتنقية مياه الشفة، سواء من الشوائب، أو من نسبة الكالسيوم المرتفعة أو حتى من النترات التي تخلّفها المبيدات والأدوية الكيماوية التي يستعملها المزارعون عشوائياً. وعن الحلول التي يلجأ إليها الناس هرباً من المياه الملوثة باستعمالهم عبوات شركات المياه، رأى عباس أن غياب الرقابة على شركات تعبئة المياه يُعدّ «إهمالاً فاضحاً واستهتاراً بأرواح الناس»، ولا يمكن الاعتماد على جميع شركات بيع المياه، وخاصة أن الدولة تجري الفحوص على منتجات هذه الشركات عند طلب التراخيص فقط، دون متابعة وإجراء فحوصات في فترات متفاوتة، وعشوائياً على العبوات.
والجدير ذكره أن مياه ينابيع البقاع تعتبر الأعذب، لكون غالبيتها تنبع في منخفض جبلي يستقطب المياه ويجمعها في خزانات طبيعية، إلا أن التلوث البيئي يترك بصمة واضحة في نوعية هذه المياه. فالينابيع تتلوث بفعل الصرف الصحي الذي ما زالت المنطقة تفتقد محطات تكريره، إضافة إلى ارتفاع نسبة النترات الناجمة عن رش المبيدات الزراعية والكيماويات، ولتمهر كل نتائج الفحوصات التي تجرى على المياه بعبارة «غير صالحة للشرب».
مياه نبع اليمونة التي توفر مياه الشفة لأكثر من أربعين قرية في غرب بعلبك، تبين أنها ملوّثة وغير صالحة للشرب، فقد أكد رئيس بلدية بتدعي جورج الفخري في حديث لـ«الأخبار» أن فحوصات مخبرية أجرتها بلديات بتدعي، شليفا وبوداي وحدث بعلبك، وبإشراف من وزارة الصحة العامة، لمياه اليمونة، حيث ثبت أنها «ملوثة 100% وغير صالحة نهائياً للشرب».
«مياه اليمونة تعتبر من أعذب المياه، ليس في البقاع فقط بل في لبنان»، يقول الفخري، ولكنه يؤكد أيضاً أن التلوث فيها ليس في مصدرها بل يعود إلى بركة البلدة التي تجمع فيها المياه، حيث «البط والوز وتسربات الصرف الصحي إليها من الحفر المنزلية، ومن حمامات المطاعم والمتنزهات»، وذلك كله في «ظل غياب أي نوع من التنظيف أو حتى تشغيل لمحطتي التكرير الموجودتين في بتدعي وفلاوي». ولفت الفخري إلى أن محطة بتدعي قد شُغّلت فترة قصيرة لمدة ثلاثة أشهر، لكن عادت لتتوقف بعد «تقصير من القيمين عليها»، الذين عمدوا إلى إيقافها من خلال عدم الاهتمام بها وبمتطلباتها، مناشداً المسؤولين الاهتمام بهذه المشكلة التي تؤثر على صحة أبناء المنطقة كباراً وصغاراً.
مؤسسة مياه البقاع، على لسان مصدر فيها (رفض ذكر اسمه)، اعترفت بوجود محطتي تكرير غرب بعلبك، منذ عام 2003، إلا أنهما لم توضعا على سكة مباشرة العمل بسبب عوائق عدة لا تقدم المؤسسة على معالجتها، وفي مقدمها عدم تأمين محطة كهرباء لتغذية المحطتين، وعدم توفير موظف يتمتع بالخبرة الكافية في نسب المواد التي ينبغي أن تضاف إلى المياه. وأضاف المصدر أن هناك مشكلة أخرى تتمثل بطريقة «حماية نقاط تحويل المياه» (أو السكورة) من سرقات المزارعين، الذين يسعون لتحويل المياه إلى مناطق لري مزروعاتهم، وبالتالي قطع المياه عن المحطة، وهو ما سيؤثر عليها سلباً. وعن إمكانية تشغيلها خلال الفترة القريبة المقبلة أكد المصدر أنه من غير الممكن وضعها موضع التنفيذ قريباً ما لم تُذلّل كل العقبات المذكورة، وحتى توفير مادة الكلور غير الموجودة، فضلاً عن إنجاز شبكة جر المياه إلى القرى، التي ما زالت تعاني الكثير. وأمام هذا الواقع لا يبقى إلا شكر الدولة على إهمالها الذي وفر للمنطقة مواد بناء بعد إقفال الكسارات!


حياة في خطر

لم يبق لمحطم الرقم القياسي لحصى الكلى، أي المواطن عباس يونس، مفر من إجراء عملية زرع كلية جديدة، بعدما رفضت القديمة، المزروعة بدورها، التجاوب. هكذا، أصبحت حياته معرّضة للخطر ما لم يقدم على إجراء العملية في الفترة القريبة المقبلة. ويعتبر يونس «العائق المالي» السبب الأول في تأخره بإجراء العملية، حيث إن عليه تأمين مبلغ لا يقل عن 22 ألف دولار. يونس لم يجد مفراً من طلب المساعدة «من رب العالمين أولاً ومن السيد حسن ثانياً والوزير خليفة»، للتخلص من محنته.