أنسي الحاج«غروب صَنَم»
يشغل الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري (من مواليد 1959) بلاده بكتاب جديد تحت عنوان «غروب صَنَم» يمزّق فيه هذه المرّة فرويد. دجّال جشع، طبقي، ممالئ للنازيين ولموسوليني، معالِج فاشل، مهووس أسقط عقَده النفسيّة، وأبرزها اشتهاؤه لأمّه، على نظريّات فَرَضتها طبوله وأبواقه على العالم كحقائق مُنْزَلَة، وأمّا نظريّة قتل الأب فقد طبّقها هو في كتابه «موسى» حيث أَعمَل هدماً في الديانة اليهوديّة وجرّدها ممّا تدّعيه قائلاً إن موسى سرق فكرة التوحيد من أخناتون، وبدا العالِم النمساوي يهوديّاً يكره يهوديّته. وهو، للحقّ، ليس فريداً في هذا ولا رائداً، وقرّاء موريس بلانشو، مثلاً، وهو أحد أهمّ الوجوه الحديثة بين الأدباء الذين يصلح تلقيبهم بـ«ضائعي الملامح» (بين النقد والفلسفة والقصّة والشعر...) استهلّ حياته معادياً للساميّة وناشطاً في أقصى اليمين، وهو أيضاً يهودي. وماركس اليهودي توقّف مليّاً أمام المسألة اليهوديّة باذلاً جهداً ضخماً لمعالجتها بأقصى ما يستطيع من «موضوعيّة». وفي سيرته عنه يعيد جاك أتالي، اليهودي المتنوّر الآخر، التذكير بهذه الحقبة لدى ماركس، وكيف أن الأخير انتهى بخلاصة مفادها أن إعتاق اليهود إعتاقاً تامّاً يفرض زوال جميع الأديان، عوضَ أن يمرّ بتحويلهم إلى اعتناق المسيحيّة: «إن الإعتاق السياسي لليهودي، للمسيحي، وبكلمة للإنسان الديني، هو إعتاق الدولة بالنسبة إلى اليهوديّة، إلى المسيحيّة، وإلى الدين عموماً». ويستطرد أتالي: «حسمُ المشكلة مع اليهوديّة هو كذلك حسمها مع المال». ويستشهد بقول ماركس: «المال هو إله إسرائيل الغيور، وغير مسموح لأيّ إلهٍ آخر بالوجود أمامه». ويضيف ماركس: «ما هو المحتوى الدنيوي لليهوديّة؟ الحاجة العمليّة، الاستفادة الشخصيّة. ما هي العبادة الدنيويّة لليهودي؟ التجارة. مَن هو إلهه الدنيوي؟ المال (...) إن القوميّة الوهميّة لليهودي هي قوميّة التاجر ورجل المال...»، وبالقَطْع مع اليهوديّة، كما يستخلص أتالي، يُقْطَع مع المال، المال الذي، كما يقول ماركس، «يَنحطُّ بآلهة الإنسان كلّها ويحوّلها إلى سلعة».
وستيفان زفايك، الأديب النمساوي العميق المتميّز بالسِيَر الأدبيّة وببضع أقاصيص لا تُنسى، فضلاً عن روايته الشهيرة «الشفقة الخطرة»، زفايغ الإنساني الذي آمن بضرورة تحقيق الوحدة الأوروبيّة وعمل لها في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين مع رومان رولان، انتهى به مطاف الرجاء والعطاء، بعد نفي الذات أمام صعود المدّ النازي، إلى اليأس على طريقة الأسود والنسور، فتجرّع السمّ هو وزوجته في منفاهما البرازيلي وخرجا من هذا العالم الذي لم يعد يُطاق. والشبه كبير بين قاتل يهوديّته رمزيّاً، كفرويد، وقاتلها بالانتحار، وسابقة قلعة «مسعدة» اليهوديّة في فلسطين حيث انتحر عدد كبير من اليهود عام 73 ميلاديّة كي لا يستسلموا لمحاصريهم من جيش روما ـــــ هذه السابقة باتت مرادفاً للانتحار الجماعي، رغم أن المكتشفات الأركيولوجيّة نظّفتها من شحم المبالغات. ومعروف أن الانتحار محرَّم في الديانة اليهوديّة.
لا بدّ أن تثير هجمة أونفري عواصف بين مريدي الفرويديّة، وقد أضحت بدورها أقرب إلى الديانة منها إلى العِلم. يعيد هذا إلى الأذهان تقاليد العقل الفرنسي في «التحريك» ونفض الغبار. حيويّة لا تخبو، وحساسية «عرقيّة» ضدّ التحجّر والتحنيط. كأن الأنتي ـــــ أيقونيّة اختراعٌ فرنسيّ.
صُلْب الموضوع يبقى لأهل الاختصاص، وقد يكون أحد مآخذهم على أونفري، صاحب الجامعة الشعبيّة المفتوحة لتعليم الفلسفة، أنه دخيل على علم التحليل النفسي ويُقحم نيتشويّته الصاعقة في قضيّة لا تُعالَج بهذا الانفعال. ولكن من السجال الحاصل حتّى الآن، ومهما تكن المواقف، يبدو غائباً عن المشهد، الجانب «الأدبي والفنّي» من الفرويديّة. لا نقصد بالطبع كتابات فرويد وأهدافها المباشرة ـــــ وكتاباته غالباً ناشفة ـــــ بل نقصد تأثيرها السحري غير المباشر في حركات التجديد الأدبي والفنّي منذ نهاية العشرينات حتّى اليوم، في الشعر والقصّة والرسم والسينما انتهاءً بالأزياء، دون أن ننسى، ولعلّ هذا هو الأهمّ، أَنماط السلوك البشري والعلاقات العاطفيّة والجنسيّة. كلّ «الأديان» تفعل ذلك: مضاعفاتها إمّا أبعد من حَرفيّتها وإمّا منطلقة منها ومتفرّعة إلى دروب لم تكن بالبال.
مَثَل بسيط: عندما قامت السورياليّة، وهي أبرز حركة أدبيّة ـــــ فنيّة في القرن العشرين، استندت في إحدى ركائزها (العقل الباطن) إلى فرويد. ولم يلبث زعيمها أندريه بروتون أن قام بزيارة فرويد في عيادته بفيينا للتعارف، فاستقبله العالِم بمنتهى البرود وبشيء من الاستخفاف، وأجاب عن أسئلته المتلهّفة بكلماتٍ عاديّة مخيّبة، وسجّل بروتون وقائع هذا اللقاء كما هو تاركاً قارئه في صدمة الحيرة. لكنَّ ذلك لم يمنع مواصلة ارتكاز السورياليّة على المعطيات الفرويديّة ولا مَنَعَ مواصلة فرويد التعبير (بمراسلاته خصوصاً) عن عدم استلطافه لـ«حماسة هؤلاء الفِتية».
القامات تُقاس بظلالها أكثر ممّا تقاس بأحجامها الواقعيّة. إذا أخضعنا أيّ شيءٍ كان للتشريح العقلاني المربَّع قد لا يصمد شيء. لقد أنكر ماركس أن يكون ماركسياً حين سمع مرّة نقاشاً في مقهى حول الماركسيّة، مستفظعاً أن يقوّله آخرون ما لم يرمِ إليه. وكان ولا يزال على حقّ. أمّا فرويد فلعلّ القاعدة معه بالمقلوب، لأن مؤثّراته كانت في بعضها أفضل من مراميه الواعية. وإذا كان ملّاح العقل الباطن يعي الأشياء حيث هي روحه، فلا بدّ، تحت طائلة الشماتة، أن يكون مسروراً بحصادٍ لم يقصد زَرْعه.

حرقة شوقي أبي شقرا
أتوقّف عند الكتابات التي ينشرها شوقي أبي شقرا في جريدتي «الغاوون»، و«البناء». هذه الغصون الغضّة المدلّاة من أشجار غاباتٍ مسحورة لا نهاية لها.
حاول العديدون ذات يوم، وبعضنا لا يزال، تقليد لغة هذا الملاك الجريح، فلم يفلح أحد وتثبّتت أصالة الأصيل فيضاً فيضاً. ومَن منّا ليس مديناً لـ«إبرته الذهبيّة» كما سمّاها؟ أفواجٌ من الشعراء والقصّاصين والأدباء والصحافيين مرّت عليها أنامله إصلاحاً وتجميلاً وتركت عليها مسحةً من العجب.
شوقي أبي شقرا أبٌ آخر من آباء مجلّة «شعر» كاد تأثيره الفريد يجرف الجميع ذات يوم ولم يَسْلَم يوسف الخال نفسه من الانطباع به، أمّا أنا فلا أعرف ماضياً أدبيّاً ولا صحافيّاً لم يكن شوقي فيه رفيقي وهادياً لي حتّى في التعارُض، تعارضٌ هو أكثر ما جذبني إليه ومنحني طمأنينة لم أعرفها مع سواه هي طمأنينة الجمر الهالك وهو يرى البخور الطاهر وقد راح يظلّله. لم يكن يجمعنا إلّا المحبّة، وإعجابي بعالمه أكثر من إعجابه بعالمي. توتّري وهدؤه، شراهتي وقناعته، جموحي واعتداله، رتابتي وإدهاشاته، أنا الطفل المتعنتر وهو الطفل الطويل الخجول.
لا أزال، عندما أحتاج إلى الفيء، أعود إلى دواوين أبي شقرا. في مطلع السبعينات من القرن الماضي، على ما أذكر، طلب منّي سمير عطا الله، من أجل كتاب لم يرَ النور، أن أجيبه خطيّاً عن أسئلة حول «النهار»، لم يبقَ منها في ذهني غير كلام لي على التأثير الخطير الذي أحدثه أسلوب أبي شقرا في الصحافة كلّها عبر «النهار». وكنتُ فخوراً بمدرسته، على الأخصّ في حقل العَنْونة، موضحاً أن «النهار» عرفت أشهر مدرستين في العنوان: الأولى بطلها لويس الحاج والثانية شوقي أبي شقرا. والثانية واجهت مقاومة شديدة قبل أن تبسط سيطرتها هي المقاومة التي تواجهها كلّ ثورة. ولم يقتصر فضل أبي شقرا على عناوين الجريدة و«الملحق» وقبلهما جريدة «الزمان»، وقد اتّصفت بالطراوة والطرافة إلى حدّ تغطيتها أحياناً كثيرة على ضحالة المقال أو الخبر الذي تُتوّجهُ، بل امتدّ هذا الفضل إلى عناوين دواوين وكتب كثيرة لي وللعديد من الزملاء والأصحاب كان يستلّها ذوق هذا المعلّم بسلاسة خرافيّة.
كلماته هَدْهَدة، تطير كالفَراش والعصافير، وتملأ الفم بالجوز والعسل. يسوقها تارةً كما تسوق الرياح الغيوم وطوراً كما يداعب النسيم زَغَب الكائنات. وبعد المرور ببستانه الممراع يشعر القارئ، لدى نزوله من المطالعة، أنه انتقل الآن إلى صحراء.
شاعرٌ لا شبيهَ له، ظَلَمه تواضعه وظلمه عدم فهم أقرانه له وضياعُ طفولته بمحيطٍ محنَّط تحت بريق حداثته، ثم راح يظلمه شعوره بالظلم وبأن له ديناً في ذمّة العصر، ويعمّق تلك الفجوة من حرمان الحقّ التي إذا انفتحت في النفوس المرهَفَة المستوحِدة لا يملأها بحرُ العالم.
العديد من الدور أعاد نشر مجموعات أبي شقرا، وهو طبعاً أمرٌ جيّد، لكنّه لا يستوفي أغراضه ما لم يكتمل بالدراسات النقديّة وإعادة الاكتشاف. إنّ ما تنطوي عليه مقالات صاحب «خطوات الملك» منذ سنوات وحتّى اليوم ليس محض ذكريات وابتكارات بل كثيراً ما تتخلّله حَرْقة تُحطّم القلب وتُحاكم الضمير هي حرقة الذي أُكِل ولم يُشْكَر.
ليتنا نقول لمَن نحبّهم كم نحبّهم وهم بَعْدُ أحياء.


لماذا يداه...

ـــ لماذا يداه، لا، مثلاً، عيناه؟
ـــ اليدان هما التجربة. رأسه فيهما. لاحظْ: أوّل ما يكبر في الرجل يداه. اليد هي الحقيقة. عندما تتكلّم عن حقيقة تقول: «لمستُ» هذا الأمر. اليد هي اللمس واللمس هو الحقيقة. اليدان أمان. حتّى المرأة القويّة المسيطِرة على الرجل تشعر بهيمنته عليها حين يغمرها.
ـــ يقال إن أغلى هديّة يقدّمها شخص إلى آخر هي أن يجهله. يقال أيضاً إن أكبر قَدْرٍ يُحتمل من معرفة الشخص للآخر هو معرفةُ ما قد ينفّره منه حتّى يتفاداه... أو يتعمّده...
ـــ صحيح. الغموض محرّك. الجهل مجنَّح. العمى هو ضمان الرغبة.
ـــ أما مِن انفتاحٍ للعينين جميل؟
ـــ بلى، لكنّه الجميلُ الأقلّ شراسة. عندما تنفتح العينان تمتلئان بالضيوف.
ـــ كيف تردمين المهاوي؟
ـــ على صعيد العمر، رأسي يملأ الفراغ. كثيرون لا يصدّقون عمري. من ناحية الدين، لا وجود عندي للفرق، وإذا كان الطرف الآخر متعصّباً فهو لا يعني لي شيئاً.
ـــ وهاوية سوء التفاهم؟
ـــ وضوحي لا يترك مجالاً، وأسعى لحَمْل الطرف الآخر على الوضوح.
ـــ قلتِ «الغموض محرّك». ألا يشلُّكِ الوضوح؟
ـــ هذا شللُ انبساط الجناحين.