عمر نشابةسُمع أمس صوت رصاص في أروقة دوائر الدولة. لم يصدر بيان يشرح الملابسات، ولم يُدعَ مجلس الوزراء إلى جلسة استثنائية لبحث الأمر، تمهيداً لمعالجته، فالرؤساء والوزراء مشغولون بأمور أكثر أهمية.
طمأن مصدر قضائي رفيع المواطنين عبر تأكيده أن الأمر لا يستدعي القلق. هي مجرّد طلقات نارية في الهواء. استقرّت الرصاصات الثلاث في الرأس، ولم يتوقّف الجسد عن الحركة. فالخصر ما زال يخلع وتعلو الزغاريد على وقع مشاريع الرئيس والوزير والمدير الإصلاحية.
الرصاصة الأولى أزمة ثقة تتألّف من أربعة رؤوس: أزمة ثقة بين الزعماء والحلفاء والناس والدولة. إذ أجمع الشيخ والزعيم والأمين العام والجنرال ورئيس الهيئة التنفيذية على تأليف حكومة توافقية «يتناتشون» الحصص فيها من خلال وزرائهم. ويبحث كلّ وزير عن سبيل لتوسيع حصّته الشخصية وحصّة فريقه. ويصبح التوافق والتوتّر بين الوزراء وجهين للعبة واحدة.
وبهدف التأكد من أن التناتش لن يخرج عن السيطرة كما حصل خلال الحقبة السابقة، أجمع الأقطاب على ضرورة وجود رئيس جمهورية يمسك بوزارتي الدفاع والداخلية ووزارات دولة لـ«حسن صيانة الثلث الضامن».
وهكذا، أُوكلت مهمّة قوات الردع العربية السابقة إلى الرئيس ووزرائه، لكن من دون صلاحيات عنجر ومن دون أن يُعَدّوا حكّاماً لمباريات المحاصصة. فذلك ما زال متروكاً للاستعانة بالقوى الخارجية.
يؤيد الجميع الرئيس التوافقي لأنه لا يتمتّع بصلاحيات ما قبل الطائف. كذلك، يؤيد الجميع وزير الداخلية لأنه لا يمسك تماماً بقوى الأمن الداخلي والأمن العام، إذ إن هاتين المؤسستين تخضعان لتجاذبات المحاصصة.
ويُعَدّ الرئيس ووزير الداخلية والبلديات واجهة حضارية توافقية للجمهورية اللبنانية، تسعى إلى تغطية ثقوب أحدثها الرصاص في الرأس.
وفجأة تتفاقم الأزمة بين الحلفاء وتنتقل الأمور إلى تناتش الحصص التي جرت محاصصتها مع الآخرين. وتقتضي وظيفة الخصوم بأن يستغلّوا ذلك للمطالبة بإعادة طرح حجم الحصّة بالأساس. وهكذا يتعمّق ثقب الرصاصة. أما المواطن، آخر همّ الدولة، فلا ثقة له بأي من رجالاتها. يبتسم للرئيس التوافقي، ويفتخر بوزير الداخلية الحضاري، لكنه يعلم أن حُكامه في مكان آخر.
لكن بين المواطنين ومؤسسات الدولة أزمة ثقة تاريخية أسهمت أزمة ثقة بين اللبنانيين أنفسهم في تفاقمها. ولا يسعى الناس اليوم إلى مراجعة أسباب كره بعضهم لبعض ودوافع انخراطهم في النزاعات الداخلية، بل يفضّلون لوم الدولة وتعميق الهوة بينهم وبينها.
الرصاصة الثانية تقضي على ما بقي من نضج ديموقراطي لدى اللبنانيين. فلا مساءلة ومحاسبة في ظلّ استزلام الوزراء والمديرين والضباط لجهات سياسية. وكي لا تتحوّل المساءلة إلى صدام، يفضّل الاستعاضة عن مسار المساءلة والمحاسبة المؤسساتي الديموقراطي بالبحث عن تسوية خلال خلوة أو اجتماع خاص يعقد بين الأقطاب المعنيين. وإذا تعذّر التوافق تُرفع النبرة ويشتدّ التوتّر إلى أن تتدخل القوى الخارجية.
أما القضاء المستقلّ الذي تفترض الديموقراطية حسمه في النزاعات على أساس القانون، فحدّث ولا حرج. رصاصة في الرأس؟ لا بل رأس مقطوع بفعل الرصاص. فلا يُخفى على أحد أن التعيينات القضائية تخضع للمحاصصة. فهل يعيّن الزعيم من حصّته قاضياً يمكن أن يجرؤ على محاكمة أتباعه والمقرّبين منه وإدانتهم؟
الرصاصة الثالثة رأسمالية حرّة، وبالتالي فهي من النوع المتفجّر. أحدثت فجوة صغيرة واستقرّت في الوسط.
فبالمال والرشوة والإكراميات يمكن أن يحصل الرأسمالي على كلّ ما يطلبه من دوائر الدولة بسرعة قياسية، شرط أن يتمتّع بالتغطية السياسية.
الإنماء غير متوازن لأن الأولوية لنشاط القطاع الخاص في المدن. فلا مصلحة للأقطاب في القطاع العام إلا إذا كانت فيه مكاسب خاصّة.
ومن مصلحة السلطة الحاكمة أن تبقى مناطق ريفية واسعة محرومة، ويعيش فيها الناس تحت مستوى الفقر، إذ إن تلك المناطق هي أيضاً دوائر انتخابية. وقد تكفي بضعة ملايين من الدولارات لكسب أغلبية أصواتها، بينما قد لا ينجح ذلك في المناطق الأقلّ فقراً وحرماناً. علماً بأنّ تعذّر توفير الأصوات من خلال المال يدفع إلى الاستعانة بالعصبية المذهبية والطائفية أو التهديد والوعيد.
ثلاث رصاصات في الرأس كافية لتعثّر الإصلاحات الجذرية التي استبدلت بعمليات تجميل مؤقتة. ثلاث رصاصات أودت بالنسبية في الانتخابات النيابية وبالتعديلات على قانون الانتخابات البلدية وبتعديل قانون الجنسية واستعادة حقوق السيدات في المجتمع. ثلاث رصاصات كافية لضرب إصلاح المؤسسات وإعادة النبض المنتظم للمؤسسات الديموقراطية الدستورية.
ثلاث رصاصات في الرأس كافية لتهديد سلامة العلاقات اللبنانية السورية. فالعلاقات بين القطرين العربيين الشقيقين انتقلت من التبعية إلى المعاداة المطلقة، ومن ذلك إلى تبعية شبه مطلقة. وهو ما لا يناسب مصلحة الدولتين والشعبين. لكن بينما يعمل الرئيس بشار الأسد على ضمان مصالح الجمهورية العربية السورية، تبقى مصالح الجمهورية اللبنانية آخر ما يفكّر فيه معظم الأقطاب السياسيين اللبنانيين المشغولين بضمان مصالحهم الخاصة على حساب بعضهم.
ثلاث رصاصات في الرأس كافية لإطلاق محاولات إضعاف جبهة الصمود بوجه العدو الإسرائيلي. وقد لا يراهن الإسرائيلي على ضرب المقاومة في الظهر خلال المواجهة المقبلة، بل على تفكّك ما بقي من مؤسسات الدولة على غرار ما سبق اجتياح 1982.
ثلاث رصاصات في الرأس كافية لإحداث كلّ ذلك... لكنها عاجزة عن كسر عزيمة بعض اللبنانيين على إحقاق العدل وتطوير المقاومة وتحقيق الإصلاح.