حيطنا واطي
ضحى شمس
«أنت لست وزيرة العدل أنت وزيرة اللاعدل وإلا ما معنى أن يبقى جورج إبراهيم عبد الله في السجن»، بهذا الكلام توجه الشاب اللبناني إلى وزيرة العدل الفرنسية، ميشيل اليو ماري، في مستهل اللقاء الذي كانت تقف فيه في «بيت المحامي» أول من أمس، في بيروت، إلى جانب «نظيرها» اللبناني إبراهيم نجار. المفاجأة التي ظهرت بوضوح على وجهي الوزيرين «النظيرين»، خرجت بهذا النوع من اللقاءات إلى حيّز جديد. حيّز لم يعتده كبار الزوار، ما جعل وزير العدل اللبناني، فعلياً وللحظة، نظير نظيرته الفرنسية، في تلقي «تبعات الديموقراطية اللبنانية» كما قال لها بعيد إخراج الأمن الفرنسي، أمن الوزيرة وليس الأمن اللبناني، للشباب.
لكن تلك المساواة كانت لبرهة. بعدها، عادت الوزيرة إلى مكانها «الطبيعي» الذي أرساه تاريخ بلادها الاستعماري في عقول الشعوب «المستعمرة حتى النخاع»، والمستسلمة لكل ما يمثله الرجل الأبيض، «المستر» حسب تعبير العاملات الأجنبيات، ولو كان امراة. لم تجد وزيرة العدل، قبل ذلك اللقاء بيوم، مشكلة في القول للصحافيين (الأخبار العدد 1100) إن اللبناني جورج إبراهيم عبد الله سيبقى في سجنه الفرنسي إلى الأبد. لم تجد حرجاً في القول إن لبنانياً، حكم وأمضى محكوميته في فرنسا، سيبقى في سجونها بعد انقضاء حكمه، وذلك بقرار إداري وليس حتى قضائياً، بموجب قانون رشيدة داتي (وزيرة العدل السابقة) الذي يقول إنه إن لم يعتذر عما فعله، فهو عرضة للقيام بذلك مرة أخرى! إنها محاكمة للنوايا، أسوأ أنواع المحاكمات.
هل اعتذرت فرنسا عن رمي مئات الجزائريين في نهر السين مطلع الستينيات؟ بدلاً من الاعتذار، ها هم أولاد عصر الأنوار يبحثون في... «منافع الاستعمار». ولماذا اللجوء إلى التاريخ، ما دام متابع بسيط للأخبار مثلنا، بإمكانه ضبط فرنسا وهي تكذب وتنتقم وتتستر على الإجرام حين يكون المجرمون فرنسيين. وإلا ما معنى إصرار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على إعادة خاطفي الأولاد في نيجيريا إلى باريس برغم وضوح تهمتهم؟ لمَ لم يتركهم للعدالة النيجيرية؟ أم أنها عدالة العبيد التي لا تصلح للأسياد ولو كانوا مجرمين؟ وماذا عن تلك المجرمة الفرنسية في المكسيك التي خطفت ابن أحد الأثرياء للابتزاز؟ ماذا عن فضيحة «القراصنة» الصوماليين الذين أسرتهم فرنسا العام 2008 خارج المياه الإقليمية الصومالية، وهي بالتالي مياه تخضع للقانون الدولي، وها هم يقبعون في سجونها من دون محاكمة بسبب ثغرة قانونية لا تجيز لفرنسا محاكمتهم؟ والفضيحة الأكبر اكتشاف الصحافة أن بعض «القراصنة»، الذين أُلقي القبض عليهم لاحقاً، لم يكونوا سوى صيادين صوماليين لا شأن لهم بأية قرصنة، كل ما هناك أن الفرنسيين كانوا بحاجة لكبش محرقة! هذا غيض من فيض. هناك عشرات الأمثلة مما لا يتسع المجال لذكرها هنا.
المعاملة بالمثل بين الدول خرافة. فهي ليست حقيقية إلا بقدر خضوعها لتوازن القوى، وهو ليس لمصلحتنا منذ فترة طويلة. إن مجرد تلقيب وزير العدل اللبناني بأنه «نظير» وزيرة العدل الفرنسية يرسم ابتسامة حزينة، ليس لأنه غير قادر على ذلك، بل لأنه ليس كذلك. لسنا نظير فرنسا، التي يصر البطرك على محاباتها بقداس على نيتها سنوياً، ما الذي يعنيه هذا القداس؟ لا أحد يفهم. ولمَ لا يكون على نية أميركا؟ فإن كان علينا محاباة أحد ما، أليس الأفضل محاباة دولة تحكم العالم بدلاً من أن نكون أوفياء ككلب لمعلم عجوز مضى زمنه؟
هيّن انتهاك حق اللبناني. جورج إبراهيم عبد الله لا يزال في السجن لأن «حيط دولته واطي». كما هو هيّن انتهاك حق المصري والفلسطيني. ساحل العاج أبعدت اللبناني حسن مروة، بعد دخوله سفارة إسرائيل لتسليم السفير رسالة بالمطالب اللبنانية. وإن كان ما فعله جورج إبراهيم عبد الله موضوعاً يحتمل المحاججة، فإن ترحيل مروة الذي لم يرتكب أي جرم يستأهل الترحيل لا يفسر إلا بشيء واحد: حيط دولته واطي.
وفي السياق ذاته، ولو أن المقارنة تبدو ظالمة مع المذكورين أعلاه: لمَ عادت محكمة التمييز السعودية لتحكم بالإعدام على اللبناني حسن علي سباط المتهم، اسمعوا جيداً، بالشعوذة؟ أليس لأن حيط دولته واطي؟ تماماً كحيط المصريات المتزوجات من سعوديين؟ وحتى المصريين في السعودية ممن نقرأ أخبارهم في الصحف؟
السفير السعودي علي العسيري قال في صدد التعليق على تأكيد حكم سباط: «لا نستطيع التدخل في استقلالية القضاء السعودي»، وبما أن القضاء السعودي مستقل ونزيه لهذا الحد، لمَ لم يحكم على زوجة وزير الداخلية السعودي التي حاولت سرقة 89 ألف يورو من المحال الباريسية، ما استوجب محاصرة فندق «جورج الخامس» لاستيفاء المبلغ منها بقطع اليد؟ لو كانت من عامة الشعب، لفعلوا ربما، ولكنها أميرة، وزوجة وزير الداخلية. البياض ليس استعمارياً فقط. البياض لون يكتسب من السلطة. حيطنا واطي؟ صحيح. تماماً مثل زوجة زكريا في نزل السرور. نطنش حين يكون «ضومط عم يعيّر الخزان»، وننحني نقبل يد «السيدة» الوزيرة، متظاهرين بأنها مجرد سيدة.