مايا ياغيلم أكن أعرف في طفولتي ما هي بيروت. ليس بالمعنى الحقيقي، فطبعاً كنت أعرف أنها عاصمة لبنان، والوسط التجاري والاقتصادي والسياحي والخدماتي والسياسي وما إلى هنالك. إلا أنّ بيروت كانت بالنسبة لي أشبه بالحلم وكانت صورتها في خيالي تختزَل فقط في المطار. فزيارات أبناء الضيع الجنوبية لبيروت قليلة جداً إلا في حال توديع أحد الأقرباء المسافرين أو استقباله. هكذا، لم أكن أعرف من العاصمة تقريباً سوى مدخلها الجنوبي تقريباً. لكنه كان كافياً لإطلاق مخيلتي. فالمطار سماء مفتوحة، وطائرات تلف الكون ومسافرون مهندمون «بارمين وشايفين»، يكفي تأملهم لتخيّل إمكانية حياة أخرى.
لم تكن بيروت حلماً بالنسبة لي فقط، بل كانت كذلك لصبايا قريتي وشبانها أيضاً، ولا تزال. ففي زوطر الشرقية، لا تزال الصبايا ينظرن إلى بنت المدينة بطريقة مختلفة: رقي، أناقة، تألق، ثقافة، و«بيكفي إنو إيديهن ناعمين، مش متلنا مجبلوين بلون التراب»، كما كانت رفيقاتي يرددن. وكانت الفتاة الضيعاوية التي تستطيع أن تكوّن صداقة مع بنت بيروت، تثير كراهية صديقاتها في مقابل اهتمام شباب الضيعة، الذين يستهويهم «فانتاسم» الفتاة المدينية، ربما لأنه يحمل تحدياً أكبر. هكذا، كنت أحسد الفتاة البيروتية لأنها تسكن في المدينة الحلم. أما الآن، فقد اختلفت الأوضاع، ومع الأيام، أصبحت بيروت هي المكان المضني الذي أجبر على زيارته بين حين وآخر للعمل، لكنني ما زلت أستغربه رغم الألفة التي كوّنتها معه. فعلى عكس المشهد في قريتي النائية، تحجب السماء في المدينة بنايات وأبراج، وتعكّر صفو هدوئها أسواق، زحمة ناس وسيارات، ضجة متواصلة، مولدات كهرباء، زمامير، دخان من كل حدب وصوب، وموسيقى لا تعرف لها نوعاً أو تصنيفاً.
مواجهة التقاليد في القرى أصعب من مواجهة المدينة
بعد الاحتكاك المتواصل مع الناس في هذه المدينة، ما زلت أسأل كيف استطاع ابن القرية أن ينسجم مع هذه البيئة الغريبة. فعلاً، غريبة بكل مكوّناتها. ومع أنها تنبض حياة، إلا أنها علّمتني أن أقدّر رائحة التراب في ضيعتي. المشكلة هي أن رائحة التراب الطيبة لا تختزل حياة القرية، ولا تلغي نقمتي على تقاليدها وعاداتها، التي، حين أحاول مواجهتها، أُنتقد بقسوة، ويذكّرني محيطي بتهكّم: «ما تنسي انك بنت ضيعة مهما رحتِ عبيروت».
«أعترف بأن الحياة في المدينة تحتاج إلى قوة شخصية كبيرة، فالتحديات أقوى مما تعرفه فتاة الضيع. إلا أن القوة التي تحتاجها الفتاة في المدينة تكاد لا تقارن بتلك التي تتطلبها مواجهة عادات الضيع من فتاة، وخصوصاً إذا لحقت وعلقت بلسان نسوان الضيعة!».
تطوّر شبكة المواصلات قرّب جداً بين بيروت والقرى اللبنانية، لكن المسافات الثقافية والاجتماعية لا تزال شاسعة. والفتاة التي تتذوق طعم بيروت، إن كان خلال دراستها أو عملها، تجد نفسها أمام مأزق كبير، إذ تتسع الفجوة كثيراً بينها وبين محيطها القروي. فجوة تعجز قدرة أعتى المثقفين عن ردمها، فكيف تقوم فتاة بذلك فيما لا تزال سلطة الرجل في الضيع تستحوذ على كل ما تنجزه أي امرأة من تقدم في مراتب علمية أو
اجتماعية؟
الآن، أدركت تماماً أن الانسجام مع كل حالات اللانظام في المدينة يظل أسهل من الانسجام مع محرّمات القرى البالية.