يعيش مرضى الإيدز في «رومية» في سجن داخل السجن، ويُعزلون عزلاً شبه تامّ عن باقي النزلاء، كاتبة المقال أعدّت دراسة عن وضعهم، وتلقّت منهم أجوبة عن غياب التوعية على حقيقة هذا المرض، بينهم من قال إنه لن يجد علاجاً خارج السجن
ديالة عمار
«قيل إنه لا أحد يعرف أمّة حتى يدخل إلى سجونها. فلا يُحكم على أمة من خلال معاملتها للطبقة العليا من مواطنيها، بل من خلال معاملتها لأدنى الطبقات».
نيلسون مانديلا

«نادي سجين معو سيدا»، يبتسم الرجل الجالس أمام باحثين، ينظر إليهم بثقة من يشعر بأنه أنهى بنجاح المهمة الموكلة إليه، وأنه «سيخدم الباحثين على أفضل وجه».
«مساعد» الباحثين هذا لا يتنبّه إلى وقع جملته عليهم، لا يكترث لعلامات المفاجأة ترتسم على وجوههم، وللغضب الذي يولّده الشعور بأن ثمة سجناء تُستباح خصوصياتهم.
إنّهم أربعة أشخاص يخرجون من أمكنة العزل ليجيبوا عن أسئلة في إطار بحث أكاديمي أُعدّ خلال العام الماضي، عن أوضاع السجناء المصابين بمرض نقص المناعة، أو السيدا، من خلال مقابلتهم ومراقبة حياتهم وراء القضبان.
مرافق الباحثين ـــــ أو «مساعدهم» ـــــ هو أيضاً سجين، يروي أنّ إدارة السجن كلّفته بمهمة المرافقة خوفاً على الباحثة (أو الباحثين)، وأن ثمة من لا يثق بنزلاء السجن المصابين السيدا (!)، تثير جملته الحيرة، فهي لا تشبه أبداً سلوك هؤلاء السجناء المرضى، لكنها تلخّص النظرة التي تلاحقهم.
«جميع السجناء الآخرين يعرفون أننا مصابون بالسيدا ويتجنّبوننا. نحن في سجن السجن»، بهذه الكلمات يتحدث رجل مريض يعيش خلف القضبان. هو واحد من نزلاء في رومية بيّنت الفحوص المخبرية إصابتهم بفيروس نقص المناعة. ناشطون في جمعيات أهلية تتابع أحوال السجون يقولون إن إدارة سجن رومية قرّرت عزل المصابين بالسيدا عن باقي السجناء، و«زربهم في قفص خاص بهم»، ولكن للعزل «فوائد» إذا ما نظرنا إلى واقع الاكتظاظ في سجن رومية. يُدرك المصابون بفيروس نقص المناعة أنهم بعيدون عن الضجيج ومساوئ الغرف المكتظّة وما يتعرّض له الضعيف في هذه الحالة من تسلّط سجناء أقوياء، ومن مشاكل عديدة، ومن الواقع الذي يفرضه وجود محكومين في جرائم مختلفة في مكان واحد وضيّق. لكنهم خلال الحديث يعودون إلى المرارة التي يشعرون بها، فهم مثلاً ممنوعون من الأكل مع الآخرين.

العزلة خانقة

تتخذ معاناة هؤلاء السجناء أبعاداً كثيرة، ثلاثة منهم يرفضون تلقي العلاج، لأنهم لم يقتنعوا أصلاً بإصابتهم بالمرض. أحد المرضى رفض التكلم مع غرباء، الآخرون اشتكوا من العزلة التي يعانونها، وتحدثوا بمرارة عن نظرة السجناء الآخرين إليهم. سينكو (اسم مستعار) يعشق كرة القدم، لكنه ممنوع من ممارستها إذ «لا يحقّ للمرضى بالسيدا المشاركة» في النشاطات التربوية أو الرياضية أو التدريب المهني.
إذا سُئل هؤلاء السجناء عن المرض يقولون إن كلّ ما يعرفونه عن مصابهم واحتمالات العدوى اكتسبوه قبل الدخول إلى السجن.
المتحدث إلى السجناء مرضى الإيدز، سيعثر لديهم على بعض الكلمات التي تلخص معاناتهم، أحدهم يردّد «سُجنت في غرفة انفرادية 25 يوماً من دون أن يقترب مني أو يكلّمني أحد. كنت وحدي معزولاً بالكامل بسبب معاناتي مع السيدا». في المقابل يسمع الباحث كلاماً من سجناء ومسؤولين في السجن، يؤكّد الخوف من الاختلاط بمرضى السيدا (!)، وقد يسمع مجموعة من الكليشيهات المتعلقة بهذا المرض والبعيدة عن الحقائق العلمية، ويردّد بعض السجناء «ليس لسجناء الإيدز الحق في المشاركة في أيّ نشاط في السجن بسبب مرضهم».
من جهة أخرى، يُشار إلى أن الدراسات العلمية بشأن مرض الإيدز تؤكد أن إجراءات العزل يوصى بها فقط خلال المراحل المُعدية. وقد ذكر السجناء المرضى في «رومية» أن أيّ موافقة مسبقة لم تطلب منهم قبل العزل. وقد اشتكى أحدهم من أنّه وضع في السجن الانفرادي 25 يوماً دون موافقته، وبدون إيلاغه السبب.

التوعية غائبة

المقابلات مع المرضى، والكلام مع نزلاء السجن الآخرين، ومع عاملين في رومية، يثيران لدى المستمع السؤال الملحّ: هل يحصل السجناء المرضى على معلومات صحية وإرشادات عن كيفية تجنّب انتقال مرض السيدا في السجن؟
معظم السجناء المرضى يقولون إنّ كلّ ما يعرفونه عن مصابهم واحتمالات العدوى اكتسبوه قبل الدخول إلى السجن، ثلاثة منهم أعربوا عن حاجتهم الماسة إلى العلاج النفسي، لكنّ السجون اللبنانية لا توفّر ذلك العلاج لمرضى السيدا. الأسوأ أن السجناء المرضى يقرّون بأنهم لا يعرفون متى يجب أن يتناولوا الدواء الخاص بهم، ولا يعرفون الكثير عن عوارض المرض نفسها. ورداً على سؤال عن العلاج الذي يتلقونه، أعرب السجناء عن مستوى مقبول من الارتياح في ما يخصّ العلاج الطبي المناسب، لأنه يعادل مستوى العلاج الذي يقدَّم إلى مرضى الإيدز خارج السجن. جميع الحالات لا تتلقى أيّ علاج نفسي هم على ما يبدو بحاجة إليه. أمّا بشأن المعلومات المتعلقة بالحق في اختيار أسلوب العلاج، أو رفضه، فذكر المشاركون وجود استطلاع لمعرفة موقفهم. وقد رفض ثلاثة منهم تلقّي أيّ من العلاجات المقدّمة إليهم، لأنهم لا يعتقدون بأنهم مرضى في الأصل. وكانت ردود الآخرين إيجابية.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن الموقوف، أو السجين، يُبلَغ بعد خضوعه للفحوص الطبية أنه مصاب بالسيدا، ولكن لا يُسمح له بالاطّلاع على بيانه الطبي، وفق ما أكد بعض المرضى. وفي ما يتعلق بالرعاية الطبية والدعم النفسي والخدمات الاجتماعية، التي تهدف إلى تيسير الاندماج في المجتمع بعد الإفراج عن السجين، تحدّث السجناء المرضى عن عدد قليل من الأفراد الذين يأتون للقيام بالعمل التطوعي مرة واحدة في الأسبوع، ويزوّدونهم باحتياجات أساسية (مواد غذائية و ملابس). ولكن لا شيء يجري لتيسير إعادة الاندماج في المجتمع، ولا توفَّر احتياجات السجناء الأجانب. إذ يبدو أنّ التمييز العنصري مستشرٍ في السجن: لا أحد يستمع إليهم حتى لو حاولوا تقديم شكوى إلى هيئة مختصة ومستقلّة تُعنى بحقوق السجناء الأجانب في الحصول على معاملة عادلة، تمنع عنهم التمييز العنصري، وتحترم المبادئ الأخلاقية في التعامل معهم.
قد يبدو الفحص الطبي الإجباري إجراءً منطقياً، غير أنه يمثّل تجاوزاً لمعايير منظمة الصحّة العالمية، التي توصي بـ «خيارية» هذا الفحص، وتلزم إدارة السجن الحصول على موافقة مسبّقة من الموقوف لإخضاعه لهذا الفحص، كما تطالب المنظمة بإطلاع الموقوف على النتائج فور ورودها. ويُفترض أن تتضمّن الموافقة، ضمانات بعدم تعرّض المريض لأيّ نوع من أنواع التمييز ضد من تثبت إصابته بالمرض، تتضمن المعايير الدولية تشديداً على خصوصية نتائج الفحص، وتوصية بعدم تعميمها أو إعلام السجناء الآخرين بها، كما يُفترض ألا يعلم بها من لا شأن له بالعناية الطبية.
ولكن إشاعة خبر المرض، كما هي الحال في سجن رومية، تمثّل من ناحية، استباحة لخصوصية المريض، ومن جهة ثانية، فإن ذلك يعرّضه لنوع من أنواع التمييز ضده، وهذا التمييز يمارسه «سجناء وسجّانون». وفي هذا الإطار لا بد من التذكير بإعلان مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وقد جاء فيه أنّ من يدخلون إلى السجن يُعاقبون «على الجرائم التي ارتكبوها ولا يجوز أن يعاقَبوا بسبب إصابتهم بالإيدز أو بمرض نقص المناعة. ولا شكّ أنه يجب على الحكومات منع انتشار المرض بين السجناء، وموظفي السجن، والعناية بالمرضى. كما أنّ عليهم منع انتشار المرض في المجتمع. السجناء هم جزء من المجتمع. هم يأتون منه وسيعودون إليه». (UNAIDS). هل تمثّل حالات السجناء المرضى في رومية استثناءً ما؟ بالطبع لا، فوباء السيدا يمثّل عبئاً صحياً كبيراً على جميع السجون في العالم، وهي تعدّ «بيئة مثالية» لانتشار المرض لوجود عدد من «مستخدمي المخدرات بالحقن»، وانتشار أعمال العنف فيها ـــــ وعلاوة على ذلك، فإنّ السجون مساحات مفتوحة تشهد حركة نقل يومية للسجناء وموظفي الأمن والزوّار، واتجاراً بالمخدرات وممارسات جنسية بين الرجال (في سجون الذكور)، وازدحاماً ونقصاً في الإرشاد عن فيروس السيدا، إضافةً إلى نقص في الخدمات الصحية. أمّا من ناحية انتقال الفيروس، فلا تتوافر بيانات دقيقة. ولا بد من التذكير بأن السجناء يسعون دائماً إلى سبل تمكّنهم من مواصلة عاداتهم في السجن. وكثيراً ما يجري إكراه الآخرين على اتباع هذه العادات. وتنتشر العلاقات المثلية في السجون المخصصة للرجال في دول مختلفة، وذلك بموافقة السجّانين أحياناً، وتسجَّل أيضاً حالات اغتصاب، ويتناسب ذلك مع ثقافة الهيمنة الملازمة لثقافة العنف السائدة بين السجناء، إضافةً إلى ذلك، لدى السجناء القليل من الاستقلال الذاتي في حماية أنفسهم، ولكن ليس لديهم أيّ سيطرة على العنف الجنسي والاتجار بالمخدرات والازدحام.
إنّ الحصول على معلومات عن انتشار الفيروس ووسائل الوقاية منه يعتمد إلى حد كبير على سلطات السجن، ورغم أن حملة توعية واسعة نُظمت في السجون اللبنانية، وتركّزت على الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية ورعاية المرضى، فإن السلطات اللبنانية تفضّل غضّ النظر بدلاً من معالجة التناقضات الحاصلة بسبب الأنشطة غير المشروعة التي تحدث داخل مباني السجن.

من خلف الجدار

يسترسل بعض السجناء المرضى في وصف معاناتهم، يلفت الاستماع إلى قصصهم وقصص سجناء آخرين كانوا يعانون من المرض، في السجن كلام كثير عن سجينَين يحملان الجنسية الهندية، وقد سُجنا بتهمة الدخول خلسة إلى لبنان، وقد قضيا شهوراً طويلة في السجن لأنهما لم يملكا دفع مبلغ الكفالة الواجب على كل منهما، والبالغ مئة ألف ليرة. (تجدر الإشارة إلى أن عدد السجناء المرضى كان 6 العام الماضي).

كلّ ما يعرفونه عن مصابهم واحتمالات العدوى اكتسبوه قبل الدخول إلى السجن

نسبة الرطوبة مرتفعة ولا توفّر لهم الإدارة الماء الساخن للاستحمام في الشتاء

«أخاف من الغد، أخاف من مصيري خارج السجن»، يقول أحد السجناء، يبدو كلامه غريباً، يوضح «هنا ثمة دواء أتناوله، ولكنني في الخارج لن أملك ثمن الدواء». زميله في المقابل يحكي عن تشوّقه إلى الحرية، حيث سيتمكّن من رؤية أفراد عائلته، يلفت إلى أن السجناء المرضى بالإيدز تُفرض عليهم «شروط استثنائية لتلقّي زيارات الأهل»، يشرح بأن المقابلة تجري من خلف الجدران «يقولون إن مرضنا مُعدٍ، لذا يحاولون إبعادنا عن الآخرين، ومنهم أهلنا». هذا السجين يبدو مرتبكاً، يسأل «هل فيروس نقص المناعة يطير في الهواء، وينتقل من شخص إلى آخر دون احتكاك بينهما؟».
جميع السجناء المرضى بالإيدز يشعرون بأن لديهم الطاقة الكافية لمتابعة الحياة اليومية، لكنهم غير راضين عن طريقة النوم على الأرض. ورد في إجابات جميع السجناء المصابين بالسيدا أن الوضع في السجن غير مرض،ٍ إذ ليس لديهم سرير، ونسبة الرطوبة مرتفعة، ولا توفّر لهم إدارة السجن الماء الساخن للاستحمام خلال فصل الشتاء. الحديث مع هؤلاء السجناء ينتهي عادةً عند السؤال عن المستقبل القريب، فجأةً تتغير ملامح السجناء، ثمة جملة تتكرر على ألسنتهم كلهم، يبدون يأساً من كل ما يحيط بهم، يتذكرون أنهم تلقّوا عشرات الزيارات من ناشطين وباحثين، يقولون «الكل يعدنا بالمساعدة، يطرحون علينا الأسئلة، ثم ينصرفون ولا نرى وجوههم مرةً أخرى، الكل يكذب علينا، وعدونا بأسرّة وثياب جديدة، ولكن لم يفِ أحد بالوعد... مللنا من الكلام». ثمة أمر آخر يُقلق هؤلاء السجناء، فقد أثبتت الدراسات النفسية أن أكثر ما يخيف مريض الإيدز هو غياب الإجابات العلمية عن السؤال الآتي «كم يبقى لنا من العمر؟»، وفي حالة السجناء المرضى في رومية فإنه يصعب أن يجدوا إجابات عن هذا السؤال، لذلك يفضّلون عادةً عدم الاعتراف بأنهم مرضى، بل إنهم قد يقتنعون بعكس ذلك.

جدول رقم 1:



جدول رقم 2: