أنسي الحاجحين لا يعود يُنقِذ إلّا المعجزة، تُجْبَر المعجزة.
ثقيلٌ مَن يشكو الوحدة. ما الوحدة؟ هي أن تكثر حولك الحركات ولا تلمس يداك شيئاً. هي البئر التي نادراً ما ينزل النازل إلى نهايتها. وهي عندما يحيطك المحبّون وتعرف أنّهم لن يستطيعوا لك شيئاً.
أفكّر في الفدائيّين والمقاتلين. قد يشعر مَن يجنّدهم بالذنب أمّا هم فمُتْرَعون. الحياةُ تملأهم والموت يملأهم. واللحظات تبادلهم الاعتبار فتشعر بحضورهم كأنّه الرغيف الساخن. حياتهم ظليلة وموتهم مُضاء.
كلّ رجلٍ مشروع قاتل، قاتل لبريء وقاتل لمشروع قاتل وقاتل لقاتل. نسافر وعلى الكتف ملاكٌ أو جنيّ. قايين أوّل العارفين. ويعقوب الذي عارك الله. وموسى، قبل العوسجة الملتهبة، درسَ ذلك في إثيوبيا حيث تضلّع من تراث الأطلنطيد الغرقى ومن التعاليم حول الإله الواحد. وهو ما لم تكفّ الشعوب عن اختباره من عذاباتها وأشواقها. والويل لمَن لا يحطّ على كتفه ملاك أو جنيّ، فهو، فوق تسليمه إلى المجهول، حُرّ، والويل لكَ أيّها الحر.
تَصْنَع العزلةُ خوفاً كما تَصْنع شجاعة، والشجاعة قد تغدو جسارة بلا حدود، والجسارة تحتاج إلى الولاء لصورة، والولاء إذا احتدم جدّاً يصبح بخوراً.
يتساءل المرء مصعوقاً عن السبب الذي حمل أورفيوس على الالتفات إلى أوريديس وهما يعودان من الجحيم إلى الأرض. لماذا انتهك العهد مع سيّد مملكة الموت أَلّا يلتفت في الطريق ليرى وجه حبيبته؟ لماذا أعادها بالتفاتته إلى الموت وعاش بقيّة حياته فريسة اليأس وانتهى قتيلاً على أيدي نساء «تارس» الحاقدات لأنّه لم يتأثّر بإغرائهنّ؟ جوعُ النظر إلى الوجه. الرغبة بالتماس الجمال تفوّقت على إنقاذ الحبيبة. يصعب عدم الالتفات إلى ما كنتَ تنتظره. إلى ما يحكّ القلب. يستحيل التغلّب على جوع النظر.
لا تتركي وراءكِ إلّا ما يزيد الولوع بكِ. الولوع بكِ حتّى الموت، سواء موته أو موتك. الشغف أقوى من الموت. ألقي عليه حبائلكِ. أنتِ الوهم اسحريه. أنتِ السراب اغمريه قبل أن يفيق.
الحواسُ تحبّ فيكِ ما لا تجده في صاحبها. هذه هي الطبيعة، بل هذا هو الإنسان. يريد شبيهَهُ الذي لا يشبهه. يريد صورته المعدَّلة، جسده المكمَّل، ألوانه التي لا تُمَلّ. كُوني هذا المحال. كوني هذه الكذبة. التسبيح للسحر دائماً.
■ ■ ■
يأفلُ نجمٌ ليطلع نجم، تنهار قارة لتولد قارة، يموت إنسان ليُخْلَق إنسان. وكلّ شيءٍ جديد تحت الشمس. يتدحرج عِرْقٌ ليصعد عِرْق. ولا ينطبق على أمر ما طُبّق على سواه.
ليس الفعل ما يغدو نموذجاً بل النموذج هو ما يغدو فعلاً. حلمتُ بكِ ولم أعرف أنّكِ أنتِ إلّا بعدما تجسَّد الحلم وازداد إيغالاً في الحلم. الرعب في الانتباه.
■ ■ ■
تقضي اللياقة بأن يحافظ الكاتب على مسافة من القارئ هي نفسها تلك التي يقضي الحرص بالمحافظة عليها بين فَمَي شخصين يتحادثان ويحاذران تبادل التلوّث بتخالُط الأنفاس.
يُرادُ من الفنون أن تنطق بالحلم، أن تقول المُعْجِز والبسيط، أن تجمع النقطة التي تنتهي فيها الأرض بالنقطة التي يبدأ عندها الفضاء، أن تجمعهما في كأسٍ واحدة، أن تَعْبر الكواكب والمجرّات، أن تذهب إلى أغوار الذاكرة وأن تنتقل بالحواس إلى المُحال، وأن تزيحَ الستار قليلاً عن المحجوب، وتكسوَ الفراغ قليلاً
وأن تحفر الصدى بالنشيد والنشيد بالصمت
وأن تَنْقل الروح...
كوني أيّتها الأشياء ـــــ أنتِ يا مَن كلّ واحدٍ بينها يخاطب جميع الكائنات ويصغي إليها، وما أعمق إصغائك في الغابات، وما أحنّه في الأقحوانة والسنبلة، وما أنفعه على وسادة النهر، وما آنسهُ في رياح الوادي ـــــ كوني أيّتها الأشياء مَصْدَرَاً للألحان، وكوني أيّتها الفنون كاستهلال سفْر التكوين وكموعظة الناصري على الجبل، كوني مثل مطالع المعلّقات والمتنبّي، مثل بدء الخامسة، والنصف الأوّل من الحركة الرابعة من التاسعة لبيتهوفن... كوني مثل صوت فيروز وخلود عبوره الخاطف، كوني مثل لوحات رافاييل وفيرونيز ودولاكروا، مثل شرايين جبين بودلير التي لم تحمل إلّا الكهرباء ولم تَلِد إلّا الروعة، كوني مثل طقس بعد الظهيرة في الجنّة، كوني الأعجوبة، كوني الرعشة التي تبعثها بعض حوارات السينما وبعض موسيقاها، كوني اجتماع الشَغَفِ الجارف بالإرادة الجارفة.
كوني ما لا حقّ لكِ أن تكوني سواه: تركيز الأبد في لحظة.
■ ■ ■
مقضيٌّ على الإنسان، على الإنسان دون سواه من الكائنات، ألّا يتغلّب على الوحدة إلّا بالحكمة. والحكمة أشدّ إملالاً من الوحدة. مقضيٌّ على أهل الحَذَر أن يُخْدَعوا وعلى العباقرةِ أن يكونوا طُغاة وبسطاء. مقضيٌّ على الخيال المحموم أن يتقيَّد بنظام وعلى المتألّم أن يرعى ألمه. حين لا يعود يُنْقِذ إلّا المعجزة تُجْبَر المعجزة. لا تكن خبراً يوميّاً بل معجزة، وإلّا فهمسة. لا تكوني جزءاً من الزمن بل معجزة، وإلّا فغائبة. ذهولكَ عن الوقت نقيصة ولكنْ كن ذاهلاً عن الوقت. إذا شَرَدْتَ فاقبلْ شرودك ولا تتعقَّد، أليس أنّه لا بدّ من ذَنْب نقترفه؟ كلّ الآلات تتعقّب الأخبار والجميع يجلس مُسَمَّراً أمام الساعة، هل كثيرٌ أن ينعزل الخائف في ركنه وأن يحايد الأمواج؟ للهادئ أيضاً رغيف وكرسي. الواجهة للصخب والملاجئ للهاربين. الهرب نقيصة ولكنْ لا تهربْ منه. ليس للإنسان غير السلوى. يزور الأرض لينسى نفسه والأرض. يعشق ويقاتل ليغيب عن الوقت. نحن العصافير الهائمة من وجه الوقت.
هنيئاً لمَن لا يعرف ما وراء عينيه. هنيئاً لمَن يقظتُهُ رضيعة ورُقاده رضيع. أكثر مَن نحبّهم نطويهم في الحنايا. أعمقُ ما فينا هم مَن نسيناهم. الجذور لا تظهر. الحناجر الأكثر بلاغة هي دماؤنا لحظةَ تبدو كأنّها تجمّدتْ في عروقنا. تأمَّلْ في الورقةِ تحت عينيك، في الفسحة أمامك، في الهواء فوق رأسك: هذا هو الكون بأسره. لا تلعب مع الأطفال بل كنْ طفلاً. إذا لم يستطع قلبك أن يَرْقص دعه ينسى. إذا لم تستطع أن تنسى اسكرْ بالرقص. ليس للإنسان غير السلوى.
تُجْبَر المعجزة.
تُشْعَل مثل البرق.
لا تضجر ولا تستوحش كثيراً، كلّ شيءٍ جديد تحت الشمس.


عابـــــرات

الماضي ثنية متحجّرة على وجه الصحراء
■ ■ ■
تقول أنت ابن طفولتك لتقول إنك غير مسؤول عمّا صرتَه. وهذا حقّ. لكنّك لا تُقاس بمسؤوليّتك بل بوعيك. وعيك ابن اللحظة وراء اللحظة.
■ ■ ■
الإحساس الشعريّ يعطي صاحبه بديلاً من الإيمان الدينيّ أو الإيديولوجي. البديهة الشعريّة أخْت الإشراق الصوفيّ وأحياناً أعدل منه، فضلاً عن تنوّعاتها اللانهائيّة. حتّى لو كان المرء ملحداً، يشكّل له الإحساس الشعري «ساحبة» روحيّة تأخذه على بساط القلق والرجاء ما وراء الأجوبة المتوافرة وتخوم المعطيات.
■ ■ ■
هناك حالاتٌ يسرق فيها التقديس من وهج المقدَّس. لنتخيَّل جان دارك بلا تطويب: كانت بطولتها ستتّخذ حجمها المأسوي الكامل، حيث العين تقاوم المخرز دون سَنَد إلّا جنون الفداء. الفداء الفرديّ غير المُشَرْعَن مقدَّس أكثر، لأنّه مقدَّس في اللاوعي الجماعي الوحشيّ.
■ ■ ■
وجهكِ تهافُتُ الزمنِ خارج إنائه.
وجهكِ شهيّ كعجينةٍ تحمرّ وتربو تحت النار.
وجهكِ وحيدٌ ينتظر كطفولتي
وجهكِ عارٍ كطفولتي
متلهّفٌ مثل شمسٍ تلتفت قبيل غيابها.