ثمّة مأزق في العمل النسائي في العالم العربي. وهو مأزق لا يقتصر على المجتمع وحسب، لكن يطال أيضاً العمل مع ناشطات ونسويات يدّعين حمل قضايا التغيير المجتمعيّ
زينة الزعتري
عندما ألقي نظرة إلى النشاط النسوي في المنطقة العربية، أرى توزيعاً جغرافياً وعمرياً ونظرياً ومطلبياً يجهد لأن يشكل كلاًّ متماسكاً متعاطفاً مع نفسه، يشكل قوة تغيير في المجتمع والقوانين. ولكن لا يبدو أنه استطاع أن يعيد إنتاج حقبة التماسك المناطقي المشبع آنذاك بحركات التحرر والقومية العربية (رغم إشكالياتها العديدة). فالتقارب السياسي والمفهومي الذي درج منذ بدايات القرن الماضي وحتى السبعينيات، بدأ بالتراجع لنصل اليوم إلى حركات متعددة ذات صفات قطرية وطبقية، وفي الفترة الأخيرة عمرية أيضاً. من جهة، شهدت السنوات العشر الأخيرة محاولات عديدة للعمل الائتلافي وإيجاد شبكات للتعاون في محاولة لإنعاش الحركة النسائية وتوسيع إطارها الشعبي. لكن، من جهة أخرى، ثمة تباعد كبير في المفاهيم والمنطلقات لكلّ من تسمي أو يسمي نفسهـ(ا) ناشط(ة) لحقوق النساء.
على سبيل المثال، خلال عشرة أيام من شهر تشرين الأول/ أوكتوبر 2009، شهدت بيروت مؤتمراً نسوياً أعدّه تجمّع الباحثات اللبنانيات عنوانه «النسوية العربية: رؤية نقدية»، وكذلك «منتدى المرأة العربية والمستقبل» المنظّم من مجلة الحسناء ومجموعة الاقتصاد والعمل كتظاهرة لنجمات وسياسيات. هناك تباعد كبير ما بين هاتين الظاهرتين. الأول يذهب للتحليل والبحث والطروحات المفهومية، مستعرضاً النظريات النسوية المتعددة من المنطقة العربية والجنوب والشمال في محاولة لمراجعة التاريخ واستشراف المستقبل، بينما يقدّم الثاني القيادات السياسية والنجومية في استعراض مكلف مادياً يدل على إمكان تسويق القضايا النسائية كسلعة للاستهلاك.
نلاحظ في أي اجتماع أو مؤتمر أن العدد الأكبر من الناشطات هنّ في أعمار تتراوح بين 45 و70، ونجد قلائل في عمر 30ــــ44. كما نجد أعداداً متزايدة في الفئة العمرية ما بين 18ــــ 29، ولكنها تقوم بمهمات مختلفة (اليد العاملة، السكريتارية، الصحافة). يستوقفني دائماً أنني نادراً ما أجد نساءً من جيلي (الثلاثينيات) في هذه المحافل. ويستوقفني أكثر أن الناشطات الأصغر سناً يعملن بكثافة، ولكن في أماكن مختلفة وأطر مختلفة، إذ بدأن بخلق مؤسسات ومساحات يستطعن العمل على قضاياهن من خلالها. وهذه إشكالية كبرى لناحية استمرارية العمل النسوي والتواصل. وذلك ليس من منطلق شكلي، إذ إن الكل بدون استثناء يتحدث عن «الجيل الجديد»، وعن ضرورة «التواصل عبر الأجيال»، وما إلى هنالك. ولكن من منطلق البدء بتحقيق، ولو جزئياً، لتلك الأفكار النسوية. فمن غير الممكن مثلاً أن ندعو إلى تغيير المجتمع البطركي بينما نمارس البطركية في مؤسساتنا النسائية، ونساهم في مأسسة الطبقية والتمييز العمري والجنسي وغيره. نقول للنسويات المثليات أن لا مكان لهن، ونطلب من النسويات الشابات أن يعملن ولكن لا نسألهن المساهمة في التفكير الاستراتيجي. هكذا تتكوّن الغربة التي تشعر بها النسويات، أو المأزق النسوي (كما تحدثت عنه نهوند القادري في مقال في «الأخبار») ليس فقط من خلال التعامل مع المجتمع الخارجي المتمادي في مده الديني أو الاستهلاكي أو الاثنين معاً، ولكن أيضاً من خلال التعامل مع ناشطات ونسويات يحملن قضايا التغيير المجتمعي كهمّ ونضال يومي.
نجد تاريخاً طويلاً لما يسمّى بنسوية الدولة (إلا أنني أشكك في وصفها بالنسوية وأفضّل على الأقل مصطلح النسائية، أي تلك المعنية بموضوع المرأة والنساء ولكن من دون منطلقات نسوية كنظريات للتغيير المجتمعي والعدالة) في منطقتنا. إلا أن السنوات الأخيرة أعطت هذه المؤسسات دفعاً جديداً بدعم كبير من السيدات الأولى والأميرات. فخلق مؤسسات واتحادات ولجان نسائية في كل من مصر، اليمن، الأردن، دول الخليج وغيرها، هو استراتيجية تخدم أهدافاً عديدة. فتمثّل مساحة تتحكم بها مؤسسات الدولة لكي تؤكد من خلالها أنها تعمل على قضايا المرأة وتزعم أنها تلتزم بالمواثيق الدولية، وتستخدمها أساساً لجذب التمويل الأجنبي. كما تُستخدم هذه المؤسسات لمحاربة النشاط النسوي الفعلي الذي، بطبيعة نظرياته عن التغيير، يرى في الحكومات الحالية جزءاً لا يتجزأ من النظام البطركي الواجب تغييره.
أضحت عملية المطالبة بالحقوق، إضافة إلى تقديم الخدمات، الإطار الأكثر استخداماً من الناشطات النسائيات في المنطقة. والمطالبة هذه تمثّل إشكالية، وكذلك تقديم الخدمات. مبدأ الحقوق بحد ذاته لديه إشكالياته بطبيعة الحال، ولكن الأصعب هي الآليات التي أقيمت للمطالبة بهذه الحقوق، مثل تقارير الظل، وحملات المطالبة، وذلك بسبب تركيزها على تجزئة الحقوق. فتبدأ بتحديد الأولويات، وكأن هناك فعلاً تراتبية بين حقوق أساسية (تعليمية واقتصادية) وأخرى ثانوية (سياسية)، وثالثة (جنسية وجسدية) قد نعتبرها حقوقاً تَرَفية. أرى أن المطالبة بحق ما، يُمأسس موقع المُطَالَب ويعززه، أكان الدولة ومؤسساتها، أو المجتمع الدولي، أو الرجل. فعندما نطالب بحق ما، نعتبر أن من نطالبه لديه القوة لإعطائنا

ثمة فارق كبير بين الدعوة إلى الإصلاح في الفكر النسائي، والدعوة إلى التغيير في الفكر النسوي

أضحت عملية المطالبة بالحقوق، إضافة إلى تقديم الخدمات، الإطار الأكثر استخداماً من الناشطات النسائيات في المنطقة

ذلك الحق، وبالتالي نحن لا نسعى لأن نسحب منه القوة، بل على الأكثر أن نشاركه بعضاً منها. وهنا يكمن الفرق بين الدعوة إلى الإصلاح في الفكر النسائي، والدعوة إلى التغيير في الفكر النسوي. ثم إن تقديم الخدمات كاستراتيجيا يعني التنافس مع كل الفعاليات التنموية والسياسية، وخصوصاً الدينية السياسية، في كسب تعاطف الناس؛ وهو تعاطف مبني على الحاجة ومتقلب الأهواء.
النسوية كأيديولوجيا للتغيير تسعى إلى قلب النظام البطركي أو الأبوي بأكمله، عن طريق قلب موازين القوى التي تعطي الأفضلية للرجال كفئة مجتمعية، وأيضاً لكل المستفيدين والمستفيدات من النظام البطركي الذي يعطي في المنطقة العربية، كما في مناطق أخرى من العالم، الأفضلية للأكبر سناً وللطبقة الغنية في ترادف مشترك في المصالح. وبالتالي، فأنا أتوافق مع من يقول إن الفكر «النسوي»، وفي سياق سعيه إلى إبراز صوت النساء، يعيد التفكير جذرياً في جميع بنى المجتمع السائدة في ضوء الشروط الاجتماعية والطبقية والثقافية والمعرفية المختلفة. وهذا يعني أن تعمل الحركة النسوية والفكر النسوي على تهشيم كل المؤسسات البطركية الموجودة في المجتمع، من مؤسسات الدولة إلى المؤسسات الدينية والتقليدية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية والجنسية وغيرها، وإعادة إنتاجها كمؤسسات تساهم بكل جوانبها في تشبّع المجتمع بثقافة المساواة، وإنتاج سياسات ومناهج تدعم المساواة في كل الأطر القانونية والمجتمعية والمؤسساتية. عليها إذاً أن تعمل على بناء تحالفات مع قوى عديدة، ولكن على أسس جديدة تؤكد على عدم إمكان تجزئة القضية النسوية من القضايا المصيرية، وعلى عدم تجزئة الحقوق والحريات (حقوق المثليات والمثليين، وحقوق العاملات الأجنبيات، وحقوق الفئات المهمشة)، وعلى البدء بتفعيل المبادئ داخل المؤسسات التي نحن فيها. وهذا، برأيي، ضروري للمساهمة في نشل المنطقة من الهيمنة (بالمفهوم الغرامشي) المسيطرة حالياً، والتي تتناغم مع النظم البطركية القمعية.