«جغل الحي» ربّما هي عبارة ساخرة إلى حد القسوة على من يُقصد أنها تسمّيه، لكنها، في الوقت نفسه، لا تقل قسوة على الفتاة ــ المرأة. فهي، أي العبارة، تخفي أو تُصرّح بأن الفتاة ــ المرأة قليلة العقل إلى درجة أن «ولداً تافهاً مسخرة» يضحك عليها وربّما يجذبها (أليس مؤكّداً أنه جغل؟)... وقس على ذلك
لين هاشم
عند زاوية الشارع، يقف متّكئاً على دراجته النارية المغسولة دائماً، بشعره المصفّف بعناية و«سكسوكته» المرسومة بدقة، ورائحة عطره التي تعبق في المحال المجاورة. شكله دائم التقلّب، بالتلازم مع موسيقاه الصادحة من الراديو الصغير في يده. فتارة يشبه عمرو دياب في قَصّة شعره، وتارة يستنسخ موضة ريكي مارتن، وتارة أخرى ذقن مساري وأقراطه عندما اجتاحت موجته «الوطن الأم». عندما كان مراهقاً، سمّوه «نجم الحي»، ثم «ملك الحريم»، ثم اللقب التقليدي «دون جوان»، الذي تطور لاحقاً إلى «خوانيتو» باعتباره أكثر «جغولية» وإثارة.
لا يذكر أهل الحي أن «خوانيتو» غاب مرة عن مركزه الثابت عند زاوية الشارع، باستثناء المرة التي هاجر فيها إلى إيطاليا ليكوّن مستقبله مع أعمامه، وما لبث أن عاد بعد أسبوعين بتسريحة شعر جديدة وحذاء إيطالي أبيض وقميص مفتوح عند الأزرار الخمس الأولى، ونظراته «الساحرة» ذاتها. «خوانيتو» يرفض التحدث عن نفسه لأنه «ما بيحب كثرة الحكي ووسائل الإعلان» (أي الإعلام)، ويختصر إجاباته، مهما كان السؤال، بجملة واحدة: «إذا هي حلوة شو بعمل، البنت يللي بتلبس قصير الحق عليها»، ويؤيّده «أبو بسام» اللحام قائلاً: «العيب على البنت مش على الشاب يا عمّو، تلبس منيح وتمشي منيح!».
■ ■ ■

«ما أرتديه وطريقة سيري ليسا من شأن أحد. أنا ألبس وأمشي وفق ما أرتاح»، تقول مايا (25 عاماً، مصمّمة غرافيك وناشطة نسوية)، وتتابع: «التحرّش ليس مسألة بحث عن اللذة بقدر ما هو مسألة سلطة وقوة يشعر من خلاله المتحرّش أنه فرض سطوته على ضحيته». فالمجتمع الذكوري، بحسب مايا، يزرع في الشاب منذ طفولته ثقافة «أن إثبات الرجولة يكون بإخضاع الأنوثة»، وبأن مجرد كونه رجلاً، يجعل جسد المرأة من ممتلكاته الطبيعية التي من غير المعيب التحرّش بها لفظياً أو مادياً. وترى مايا أن سلوك المجتمع يشجع المتحرّش على الاستمرار بتحرّشه لأنه يلقي باللوم على الفتاة، مبرراً للشاب بأن «عيبه ع صباطه»، وأنه كلما زادت قدرته على «التلطيش» صار أكثر «رجولة». وتوضح مايا أن الأزمة الأساسية تكمن في عدم تحدث الفتيات عن تجاربهن اليومية مع التحرّش خوفاً من العار أو العقاب أو الفضيحة، وإيماناً منهن بأن التحدث عن الأمر لن يغيّر شيئاً في الواقع، ولا سيما إذا تطور الأمر إلى حدّ الاغتصاب.
■ ■ ■

ذات مرة، لم يوفّق «خوانيتو»، جغل الحي، باختيار الفتاة التي سيقوم «بتلطيشها»، فما كان منها إلّا أن وجّهت له ضربة قاسية بمظلتها على وجهه اضطرته إلى وضع نظارات سوداء لمدة أسبوع، فأطلق عليه أهل الحي يومها، على سبيل المزاح، «الأسبوع الأسود».
■ ■ ■

«لازم المرأة تحكي»، يقول كميل (22 عاماً، طالب هندسة وناشط نسوي)، لأن صمتها وخجلها وأحيانا سعادتها بـ«اللطشة» هي أمر خطير بخطورة التحرّش ذاته. ويشير كميل إلى أن نموذج جغل الحي الموجود منذ القدم في كل بلدان العالم هو مجرد مثال يطفو على السطح، وما خفي في الأعماق أعظم. «فالطبيب والمهندس والأستاذ والجار والقريب والدكنجي وسائق التاكسي ورجل الأعمال الراقي ونجوم الفن قد يكونون متحرّشين، وفي أحيان غير قليلة، مغتصبين».
وبحسب كميل، المتحرّش هو «شخص ذكوري» غير ناضج ومكبوت عاطفياً وجنسياً، يعاني ضعفاً حاداً في الثقة بالنفس وشعوراً بالدونية يمنعانه من التقرّب إلى الفتاة بطريقة سليمة، فيحاول إثبات الوجود وجذب الانتباه والتعويض عن النقص بطرق التحرّش الملتوية.
■ ■ ■

ذات يوم، استفاق أهل الحي على عراك بين «خوانيتو» و«شلته»، ومجموعة من شبان حي «الدرملّي» الذين جاؤوا بالعصي والسكاكين دفاعاً عن «عرضهم» بعدما وجّه الجغل في الليلة الفائتة عبارات تخدش الحياء إلى إحدى فتيات حيّهم. وبعدما انجلى غبار المعركة، نُقل «خوانيتو» إلى المستشفى بضلعين مكسورين وطعنة في فخذه الأيسر، وقد اضطر والده إلى جمع المال من أهل الحي لسداد فاتورة علاجه وكفالة خروجه من السجن. بديونه وجسده المجبّر وكبريائه المكسور، عاد «خوانيتو» إلى زاوية الشارع لينفّس غضبه بالفتيات، وقد بات أكثر وقاحة، وانتقل من «تلطيشهن» إلى تحسّسهن، محدثاً أزمة دفعت عدداً من العائلات إلى تشديد القيود على بناتها، من بينهن كانت رنا، ابنة أبو بسام اللحام، التي كانت «تلبس منيح وتمشي منيح».

■ ■ ■


يبقى التحرّش الجنسي أمراً خفيّاً في المجتمع اللبناني، كأنه أمر مفروغ منه، وكأن النساء خدمة إضافية يقدّمها المجتمع ريثما تحلّ مواضيع أخرى أهم. سواء كان اسمه «خوانيتو» أو فلاناً ابن فلان، على الذكور في مجتمعنا تفكيك صورة الرجل التقليدي التي تقف عقبة أساسية بينهم وبين الحرية الحقيقية في أن يكونوا ذاتهم لا رجلاً لا تحتمل «خفته».


المتحرّشون

يصنّف المتحرّشون وفقاً لعلماء النفس إلى عدة نماذج، منها:
• المتسلّط: هو الذي يستغل نفوذه في العمل أو أماكن الدراسة لابتزاز الضحية والحصول منها على مبتغاه.
• المرشد (نموذج الأب/ الأم): هو الذي يؤدّي دور المرشد والدليل والحضن الدافئ بهدف جذب ضحيته وإشعارها بالأمان والراحة للحصول على مبتغاه، وعادة ما يوجد هذا النوع في المدارس والجامعات.
• المتحرّش التسلسلي: هو الذي ينجح في بناء شخصية توحي بالعفة والبراءة وتقنع من حولها بأنها غير قادرة على إيذاء الآخرين، وهي عادة تخطط بذكاء لتلحق ضرراً وأذى كبيرين بضحاياها قبل أن يكشف أمرها.
• الانتهازي: هو الذي يستغل ظروفاً تنشأ مصادفة، كوجود الضحية في مكان خارج العمل أو المدرسة للقيام بتصرّف جنسي تجاهها.
• المتنمّر: هو الذي يقدم على التحرّش الجنسي بضحاياه انتقاماً لصدّهم له أو لاختلافهم عن السائد وتخطّيهم «الأعراف التقليدية»، بحسب رأيه، ومثال على ذلك تعرّض المثليين والمثليات والفتيات ذوات المظهر «الرجولي» للتحرّش على نحو كبير على أيدي المتنمّرين.
• المغازل العظيم: هو الذي يكيل المدائح وعبارات الغزل لضحاياه، إما بأساليب ناعمة أو بأساليب فجّة، كعبارات «التلطيش» السائدة في الشارع، وهو ما يُعرف بـ«التحرّش الجنسي اللفظي».
• المتحسّس: هو الذي يستغل المناسبات العامة كالأعياد والحفلات أو الأماكن العامة، كوسائل النقل العام، ليتحسّس ضحاياه من حوله، أو يستغل وجوده في خلوة خاصة مع أحد معارفه ليقوم بخطوة قد تتطور إلى اغتصاب كامل.
• المغرّر المفكّر: يقع تحت هذا النموذج الأساتذة أو أرباب العمل أو العلماء الذين قد يتذرعون بـ«ضرورات العمل» أو «البحث» لجمع المعلومات الخاصة، ولا سيما المتعلّقة بالحياة الجنسية لضحاياهم.
• العاجز: هو الذي يبحث عن الحميمية وجذب انتباه ضحاياه الذين لا يبادلونه الاهتمام ذاته، فيلجأ عند تعرّضه للصدّ إلى محاولة الانتقام، ربما من خلال التنمّر.
• الكوميديان: هو الذي يقدم على التحرّش الجنسي الجسدي أو اللفظي بضحاياه، ثم يتذرّع بأنه لم يقم بذلك بدافع الشهوة، بل بدافع التسلية والمتعة.