لم تعد المدرسة الرسمية في منطقة كسروان الفتوح تستقطب، كما كانت الحال قبل عام 1975، 60 في المئة من التلامذة. فمعوقات كثيرة تواجه التعليم الأساسي في مدارس لم يعدل نظامها التربوي منذ عام 1959. لكن برغم نفور الأهل من نظام تعليم رسمي انهار بعد الحرب الأهلية، بانهيار معظم مؤسسات الدولة، إلا أنهم نظموا أنفسهم في جمعية أوجدت حلاً: «جنّة الأطفال»
ريتا بولس شهوان
«هل يُعقل أن يعلّق تطور طلاب المدرسة الرسمية العلمي والثقافي «برقبة» الروتين الإداري في وزارة التربية، بحيث لا يتمكن مدير المدرسة الرسمية من تغيير نافذة مكسورة من دون إذن الوزارة؟» هذا سؤال واحد من أسئلة عدة طرحها الأمين العام لجمعية «أصدقاء المدرسة الرسمية» في كسروان الفتوح د. سهيل مطر والمسؤول عن العلاقات العامة في جامعة سيدة اللويزة، عن واقع التعليم الرسمي في لبنان عموماً وتأثيره على المدارس الرسمية في كسروان الفتوح خصوصاً. عدد تلامذة المدارس الرسمية اليوم يبلغ أضعاف عددهم في عام 1959 وما قبل. لكن آنذاك كان «فردٌ واحد» في وزارة التربية قادراً على إدارة شؤون مئة تلميذ و28 أستاذاً ومدرستين. أما اليوم فالوضع مختلف نتيجة الزيادة الرهيبة في أعداد التلاميذ. هكذا تعاني 32 مدرسة، بين ثانوية ومتوسطة وابتدائية، في كسروان الفتوح، كمثيلاتها في المناطق، مشاكل «تنظيمية» بسبب المركزية الإدارية: فائض في المعلمين على الساحل ونقص في الجبل. أما إن كانت هناك ثغرٌ في البرنامج التعليمي الرسمي، كنقص في المنهاج مثلاً، فيُمنع الأستاذ من سدّها، تحت طائلة معاقبة المفتش التربوي «الحريص» على الروتين له. في هذه الأجواء، كان لافتاً تأسيس جمعية «أصدقاء المدرسة الرسمية» خلال الحرب الأهلية، التي أكملت نشاطها بعدما وضعت الحرب أوزارها. أهداف الجمعية كانت تسهيل التواصل بين مركز القرار والمدارس الرسمية في المناطق الكسروانية خصوصاً، غير أنها «لا تحل محل الدولة» كما قال مطر لـ«الأخبار»، وأضاف «مهمات الجمعية محصورة بتأمين الدعم لهذه المدارس، كتجهيزات المختبرات مثلاً، فالقانون أصلاً يمنع علينا التدخل بغير ذلك»، يقصد القرار التربوي على سبيل المثال.
لم تكتف الجمعية بذلك، بل أنشأت لجان أصدقاء محليين، ليلتفّوا حول كل مدرسة في كسروان (شحتول، حارة صخر، يحشوش، بقعوتا، ساحل علما، الصفرا، ذوق مصبح) لدعمها وتأمين الرعاية لها. هكذا، عمدت لجان شحتول إلى إعادة افتتاح مدرسة شحتول الرسمية، التي كانت قد أقفلت لعدم توافر معلمين كفوئين، وذلك بمساهمة المجلس البلدي ودعم أبناء المنطقة. تكرر المشهد عينه في رسمية سيدة النياح، وتم تأمين الأساتذة لها «حيث لم يكن بالإمكان تأمين النوعية والعدد الكافي من المعلمين في هذه المدارس»، وفق الأستاذ غاريوس زياده، العضو في الجمعية. بالإضافة إلى ذلك، راحت الجمعية تعمل على إحياء النشاطات والمباريات بين طلاب المدارس الرسمية وتقديم بعض المساعدات المالية لصناديق المدارس التي تعاني نقصاً، إضافة إلى المحروقات، وخصوصاً أن الدولة لا تسلّف المدارس في الجرود المال لشراء المحروقات للتدفئة، فيضطر الأولاد للدراسة في أجواء لا تساعد كثيراً على الاستيعاب.
الجهد المادي للجمعية، لم يساهم في الحد من توقف معظم تلامذة المدارس الرسمية في كسروان الفتوح، عن إكمال تحصيلهم العلمي بعد صف البريفيه، باعتراف بعض أهالي المنطقة، وحسب إحصاءات قامت بها الجمعية، وذلك لضعف المستوى في تلك المدارس، وخاصة لجهة اللغات في المرحلة الابتدائية والمتوسطة.
لكن هذا المستوى من المساعدة، وإن كان جيداً، إلا أنه لم يكن على مستوى طموحات الجمعية. هكذا بدأ التشاور بين الأعضاء، فقرروا (عام 1997) المضي قدماً بتجربة مدرسة «جنة الأطفال». غير أن «قيام مدرسة رسمية ــــ خاصة لم يكن بالأمر الوارد أو الممكن في القانون اللبناني» وفق مطر، فاستعاضت الجمعية ومؤسسو المدرسة بخيار «مدرسة خاصة نصف مجانية، بعدما توقفت الدولة اللبنانية عن إعطاء الرخص للمدارس الخاصة المجانية التي كانت الدولة تدعمها كلياً». إذاً «جنة الأطفال» نصف مجانية، تدعمها الدولة اللبنانية بـ800 ألف ليرة في العام الدراسي للتلميذ الواحد. ويتكفل أهل التلميذ في المقابل بتسديد 525 ألف ليرة سنوياً «إن استطاعوا ذلك»، وفق رئيسة مؤسسة جنة الأطفال ماريتا افرام. يشار إلى أنه بعد حصول الجمعية وإداريي المدرسة على الترخيص، في عهد وزير التربية السابق جان عبيد، تأسست جمعية أخرى وهي «جمعية مدرسة جنة الأطفال» التي ركزت جهودها على فروع الجمعية بدلاً من كل المدارس الرسمية. لكن كيف حصلت الجمعية على الترخيص، مع أن التراخيص للمدارس الخاصة النصف مجانية قد توقفت؟ في اتصال مع رئيس مصلحة التعليم الخاص الأستاذ عماد الأشقر، يشير إلى أن نظام إنشاء المدارس الخاصة تعدل عام 1996 بمرسوم مجلس وزراء، ووفق هذا القانون بالذات يمكن إنشاء مدارس خاصة وفق شروط محددة: كأهلية المبنى الذي فيه الطلاب، والمناهج التعليمية، «وجنة الأطفال مدرسة نصف مجانية، تتفوق بالمواصفات التعليمية على مدارس باهظة الكلفة». ولدى سؤاله عن السبب في عدم قبول صيغة المدرسة الرسمية والخاصة معاً، وخصوصاً أنه كان هذا طلب الجمعية في الأساس، اكتفى بالقول: «الدولة لم تتخلَّ عن هذه المدرسة وستدعم بعض تلامذتها الموزعين على فرعين بـ800 ألف ليرة سنوياً»، من دون أن يحدد عدد هؤلاء الطلاب.
اليوم ترافق مدارس الجمعية تلامذة كسروان من الروضة إلى الصف الخامس ثم تستقبلهم المدرسة الرسمية بعد ذلك مباشرة. تستوعب جنة الأطفال اليوم أكثر من 1250 طالباً موزعين على فروع جونيه، ساحل علما، غوسطا، السهيله. ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 1800 طالب هذا العام، وفق ماريتا افرام رئيسة المؤسسة. ولقد استطاعت أن تقدم مستوى محترماً من التعليم عبر تطابق برنامجها التربوي مع البرامج التربوية الفرنسية والمتابعة اليومية للتلامذة حتى بعد انتهاء دوام المدرسة، وذلك من خلال تأمين أساتذة دروس خصوصية مقابل مبلغ رمزي.
وفي النهاية يمكن اعتبار تجربة «جمعية جنة الأطفال» كاستطراد لتجربة «جمعية أصدقاء المدرسة الرسمية» نموذجاً يحتذى في كيفية تحرك المجتمع الأهلي لحماية مكتسباته، وهل هناك أهم من التعليم الرسمي من بين كل المكتسبات؟


ليلى ما سقطت

ليلى (اسم مستعار) طالبة يتيمة تعيش مع خالتها، أرسلتها الخالة إلى «جنة الأطفال» لأسباب مادية، معتقدة أن مستوى المدرسة مشابه لمستوى المدرسة الرسمية. غير أنها «صدمت» حين طلبت معلمة ليلى لها اختصاصية بتقويم النطق، وتكفّلت المدرسة بمعالجتها. ليلى اليوم «صاحبة العلامات المرتفعة» في مدرستها، هكذا يلقبها زملاؤها