هل يعدّ التعاون الأكاديمي بين لبنانيين وإسرائيليين يساريين تطبيعاً؟ انطلاقاً من واقعة محليّة هزّت الصرح الجامعي، خاضت أسرة الأميركية أمس نقاشاً صاخباً في شأن تطبيقها قواعد حملة المقاطعة
رنا حايك
لم تكن ندوة «تطبيق قواعد حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية (PACBI) في الجامعة الأميركية في بيروت» بمثابة جلسة محاكمة للناشط ساري حنفي. جميع الأساتذة الذين اتصلت بهم «الأخبار» أمس أكدوا أن الأسماء غير مهمة، وأن الواقعة ليست سوى فرصة لخوض النقاش الملحّ. فهناك إشارات إلى الكثير من الأبحاث التي تنجز بين أساتذة في الأميركية وآخرين في جامعات الداخل، بوصفهم أفراداً. لكن المشكلة في حالة حنفي هي أن التعاون لإنجاز كتاب «سلطة الإقصاء الشامل: تشريح الحكم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة» كان علنياً، مع مؤلّفين من أساتذة جامعة تل أبيب، بتمويل من مؤسسة Van Leer الإسرائيلية، وقد أورد المؤلف اسم جامعته في توقيعه للكتاب. «تعاون علني لا سابقة له بتاتاً عبر خمسين سنة أمضيتها في هذه الجامعة. أقول «العلني» لأن الله وحده يعلم ما في خبايا الدهاليز وما في الصدور. وهذا الأمر يبعث على القلق الشديد في بلد كلبنان لا يزال في حالة حرب مع إسرائيل»، كما وصفه طريف الخالدي، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في الجامعة. تعاون استفزّ الكثيرين في الجامعة، طلاباً وأساتذة، ممن وقّعوا على عريضة تسلّم اليوم إلى الإدارة، يعبّرون فيها عن استيائهم لورود اسم الجامعة «التي لطالما كانت مركزاً لمقاومة الأطماع الصهيونية الاستيطانية» على الكتاب، مطالبين هيئتها الإدارية بإصدار قرار يمنع على أسرتها من طلاب وأساتذة «أيّ تعامل وتبادل أكاديمي مع المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية». يذيّل هذه العريضة 274 توقيعاً، 31 منها فقط لأساتذة، لأن الباقين خائفون على مصالحهم وعلى رزقهم، «وهذا مؤسف للغاية، لكني أتفهّمهم»، يقول الخالدي.
النقاش، الذي حاولت الجامعة إبقاءه داخل أسوارها، أصرّ الطلاب، بمجهودهم ومثابرتهم، على تعميمه، فحرصوا على مدّنا بتفاصيله. فالقضية التي طُرحت أمس أوسع من أسوار الجامعة، مقاسها من مقاس وطن.
274 توقيعاً لمطالبة الجامعة بإصدار قانون يمنع التطبيع
في الوقائع، اعتذر حنفي من زملائه في مداخلته عن «أية إساءة قد أكون سبّبتها»، معلناً التزامه «بما هو متفق عليه في مسألة فهم مقاطعة إسرائيل والتطبيع معها»، كما جاء في كلمته. إلا أنّ صفة «متفق عليه»، كما يتضح من محضر النقاش الذي دار أمس، هي أبعد ما تكون عن هذا الفهم. ففي نظر الكاتب، يجب «توظيف الأصوات الإسرائيلية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية لخدمتها من موقعها في المؤسسات الصهيونية»، وهو يعدّ ذلك خياراً استراتيجياً ممكناً سلوكه لخدمة القضية، ولإنهاء الاحتلال، نظراً إلى أنه «من الممكن لنا أن نتخذ أكثر المواقف راديكالية ومن ثم نهمّش أنفسنا». وإلى جانب الصوت الذي ارتفع يقاطعه مذكّراً إياه: «نحن في لبنان. لبنان. لبنان 2006»، تعالت الكثير من الأصوات المدافعة عن حنفي تحاجج بالموقع المرجعي الذي يحتله أشخاص مثل إدوارد سعيد وعزمي بشارة، يتعاملون مع جهات أكاديمية وسياسية وثقافية إسرائيلية، في وجه الأشخاص الذين يدينون حنفي اليوم، متهمين إياهم بازدواجية المعايير. سريعاً، جرى تذكير هؤلاء بأن ظروف الشخصيتين المذكورتين مختلفة تماماً، كما أنهما لا يخضعان للقوانين اللبنانية التي تعاقب على التطبيع.
ومن ثم، سألت إحدى الحاضرات في مداخلتها: «ما هو المميّز في الحياة الأكاديمية الإسرائيلية كي نتعامل معها؟»، ورغم أن صوتاً أجابها: «هاي طريقة عنصرية بالتفكير»، إلا أن زميلة لها أكملت مضيفة: «هناك ألف طريقة للمقاومة، فلم لا نختار سوى تلك التي فيها تعاون مع إسرائيلي ولو كان يسارياً؟». جرى الحديث طويلاً في هذه النقطة، فـ«من يستفد من تقديمات الدولة الإسرائيلية ومن يؤمن بحق اليهود في أرض فلسطين هو صهيوني مهما كانت يساريته، وإلا، فليتخلّى عن جنسيته الإسرائيلية».
أما عن قواعد حملة المقاطعة، فقد رأى البعض أن الجامعة الأميركية لا يجب أن تلتزم بها، بل أن تتجاوزها، لأنها قواعد تنطلق من معايير دنيا وضعت لجامعات عالمية في بلدان أجنبية، بينما الجامعة الأميركية هي في لبنان «وليست في فقاعة، ولا في جزيرة معزولة. لحملة المقاطعة ظروفها الخاصة، نحن لا نخضع لقوانين أحد بل نضع قوانيننا التي تتلاءم مع وضع بلدنا وتاريخنا وتاريخ جامعتنا التي خرّجت أجيالاً من الوطنيين الفاعلين في السياسة العربية»، كما قال أحد الحضور، بينما رأى آخر أنّ «من المعقول فقط أن يطلب من جامعة لديها قوانين محددة للتعامل مع الحيوانات في مختبراتها أن تصدر قوانين تمنع تعامل أعضائها مع حكومات تعامل مواطنيها بطريقة غير إنسانية»، مضيفاً: «على الجامعة ربما تعيين لجنة تطلع أساتذتها على قوانين البلد. وفي كل الأحوال، الكاتب حرّ في اتخاذ خياراته وفي الدفاع عن ثمرة أبحاثه الأكاديمية. ذلك مشروعه، لكن عليه أن يكون مدركاً لعواقب قراره، وعليه ألا يقحمنا معه في خياراته الأخلاقية الخاصة».
حاول بعض مديري الجلسة فصل النقاش الأكاديمي العقلاني عما رأوه «انفعالاً يصاحب كل حديث عن إسرائيل»، لكنهم لم ينجحوا في تخفيف حدّته. فالقضية أكبر وأعمق من أن تنتهي بجلسة واحدة اختتمها العريف بالقول: «هذا النقاش سيستمر طويلاً»، فردّ عليه صوت من الحضور: «بالتأكيد سيستمر».


الطريق إلى الجحيم معبّد بالنيّات الطيبة

خلال مداخلته، أكد أستاذ كلية إدارة الأعمال، خليل هندي، أنه لا يشك في نيّات الكاتب ساري حنفي، إلا أنه ذكّر بمقولة للرئيس الأميركي الراحل صمويل جاكسون «الطريق إلى الجحيم معبّد بالنيّات الطيبة». وتحسباً لعدم المضي في الطريق إلى الجحيم، يؤكد أستاذ الدراسات العربية والإسلامية، طريف الخالدي أنه «إذا لم تتجاوب الجامعة مع العريضة، فسنقدم واحدة ثانية وثالثة ورابعة»