حسين خريسأذكر ذلك اليوم جيداً. أوقفت المدرسة البطريركية في زقاق البلاط الدروس، عقب إعلان وفاة باسل الأسد نجل الرئيس الراحل حافظ الأسد. أثناء وقوفنا ــــ نحن التلامذة ــــ دقيقة الصمت، رحل بي الخيال إلى «دولة الحزب الواحد». لم أكن أعرف شيئاً عن الحزب سوى ما أسمعه على القناة السورية، التي كانت تبث آنذاك «زينة ونحول». كانت القنوات اللبنانية أصلاً نادرة.
«الوحدة والحرية والاشتراكية» مبادئ تجذب كل باحث عن حضن الانتماء إلى «الجماعة»، وخصوصاً إذا كان قد سئم المناظرات في حي الخندق الغميق، التي تتمحور كلها في زواريب مذهبية وحزبية. رأيت في مبادئ البعث متنفساً من الخناق الديني. كان يأتي بعد الترهيب والتخويف من الله. كانت كلمة «البعث» ومدلولاتها أملي لقتل أمراض الطائفية وتحقيق القيامة للمواطنية التي فيّ. وكالعاشق الذي انتظر المحبوبة انطلقت نحو كتب السبعينيات لأكتشف ما آمن به الملايين في زمن العروبة الذهبي. ومنها انتقلت إلى المفكرين العظام كميشال عفلق ثم إلى كتّاب القومية العربية ساطع الحصري وجمال الدين الأفغاني وغيرهم، إلى أن استقر خيار ما دون الثامنة عشرة على حزب قضيته المركزية «فلسطين»!
أربع سنوات من العمل الحزبي دون كلل، من ضمنها حفظ «النظام الداخلي» و«الدستور» و«القسم» و«النشيد» وتوزيع مجلتي «الراية» و«المناضل» إلى الحلم بأمة عربية واحدة.
أربع سنوات من النظر إلى البعث الذي في الكتب. لم يكن يحضر الاجتماعات إلا القلة وطبعاً في غياب أولاد «القياديين» الذين كانوا مشغولين بالدراسة في الجامعات الخاصة الباهظة الأقساط. أربع سنوات رأيت خلالها الأمين القطري أربع مرات وزرت القيادة القطرية مرتين. عانيت خلالهما معاناة المواطن الفقير على أبواب المستشفيات الخاصة، إلى أن أصابت تاريخ دمي الحزبي «جلطة» في فندق الريفييرا خلال تكريم الأمين القطري آنذاك، الذي لم يفاجئ معظم الحاضرين بتلعثمه خلال الإدلاء بالقسم الحزبي، علماً بأن المناسبة كانت تكريمه لعمر انتمائه إلى الحزب البالغ خمسين سنة! في تلك اللحظة، وبدل أن يهتم المساعدون بإعطاء أمينهم ورقة القسَم (الذي لا يتجاوز ثلاثة أسطر)، انهمكوا في مسح عرق الإحراج في القاعة الباردة. مرّت المناسبة على خير على الرغم من الأخطاء النحوية التي ارتكبها «الأمين» على حزب «عربي»، أثناء قراءته القسَم عن قصاصة ورقة استدرك أحد المناضلين (العاطل من العمل حتى اليوم) وسلّمها له.
وضعت رحلة البعث في لبنان أوزارها. جيشٌ بقي ثلاثين سنة وانسحب تاركاً بعثيين لم يستطيعوا حماية مكتبهم الذي أحرقه مناصرو تيار المستقبل. رحلة لم أحظَ خلالها بجواب واحد يتعلق بالحلف بين المنادين بالاشتراكية والرأسمالية التي كبدتنا ديناً بخمسين ملياراً، أو الحلف بين جماعة الوحدة والأحزاب الطائفية، أو بين الدفاع عن الحرية ومكافأة كتبة التقارير. رحلة انتهت بحسرة على من بقي من المؤمنين في الحزب وعلى بيع مقره في الكولا. رحلة سجلت أكبر اعتذار في التاريخ لصناع التاريخ، الاعتذار للملايين المنتظرين تجسيد المبادئ لتوحيد الأمة، الاعتذار لزكي الارسوزي وميشال عفلق وحافظ الأسد الذي أصبح عنوان صورته في سوريا رئيس الجمهورية، باني سوريا، أو القائد الخالد... من دون أي ذكر للبعث.