زينب مرعي
يحكى أنّه في أحد الأيام، سرق ولد رمّانة. في المساء ولدى عودته إلى المنزل، جمعت أمه الأولاد من حولها لتقصّ عليهم حكاية سارقٍ والعقاب الذي ناله. هل أخبرت الأم قصّة السارق مصادفة تلك الليلة؟ هل قررت الأم، التي رأت كل شيء، معاقبة ابنها جهاد؟ الابن الذي أصبح حكواتياً اليوم مقتنع بالنظريّة الثانية. «أنا متأكد بأنّ أمي رأتني. لكنها لم ترِد توبيخي أمام الجميع، فقصّت علينا في تلك الليلة، حكاية السارق التي لا أزال أتذكرها جيّداً». رضع جهاد درويش الحكايات من أمه البيولوجيّة ومن أمه الثانية «بالحكاية»، وهي حاجة فلسطينيّة قذفت بها نكبة 1948 إلى جوار آل درويش، فحطّت رحال حكاياتها عندهم.
في قرية المروانيّة (جنوب لبنان) المعزولة عن جاراتها بطرق رمليّة وعرة، وبين أمّين حكواتيّتين، كبر درويش وإخوته الستة، على وقع القصص الشعبيّة وحكايات جحا والجنّ التي كانت تُروى حول طاولة كانوا يجمعون عليها المؤونة ... في ليلة مقمرة، لمح جهاد في وجه القمر جنّ الحكايات يتهدّده، أقنعه شيبه بعدها أنّه كان خيال سروة. جوّ الأساطير والخرافة هذا، كان يعزّزه غياب الكهرباء عن الضيعة. هكذا، نشأ الولد في بيئة شفاهيّة، بعيداً عن الإبهار البصري الذي لم ينجح في استمالته من بعدها.
كان يتسلّى بنظم الزجل مع رفاقه ويكرّر الدروس مع معلّم المدرسة الذي اتخذ من غرفة في بيتهم مقراً لها. كان يستمع مع والده إلى الراديو الذي يجذب أهل الحي إلى دارهم، إلى جانب حكايات والدته طبعاً. هكذا كان درويش حكواتياً بالفطرة بين أصدقائه. يؤلّف لهم الحكايات في طريقهم إلى المنزل، ليرووها لأهاليهم عند وصولهم كي يفلتوا من العقاب على تأخّرهم.
في مقهى الفندق البيروتي، حيث التقيناه قبل أيام، يكرر جهاد درويش الحركة ذاتها طوال الوقت. الحكواتي الذي يعتبر نفسه اليوم اللبناني الوحيد المتفرّغ لهذا الفن، يشمّر عن ساعديه كل خمس دقائق، تماماً كما يفعل على المسرح. كأنّه يشعر بحرّ مفاجئ كلّما انخرط في سرد حكاية، فيكرر حركته هذه أوتوماتيكياً. لكنّه هذه المرّة كان يحكي حكايته، وفي هذه الحكاية لا مكان للحزن. «سألتني مرّة صحافيّة عن الحزن في حياتي. حاولت جاهداً أن أبحث لها عن هذا المكان في نفسي، لكني لم أجده. لم تصدّقني، لكنني فعلاً لم أجده». غياب الحزن يبدو غريباً للوهلة الأولى على من عايش الحرب الأهليّة والاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة على لبنان. عندما كانت تشتدّ وطأة القصف، كانت والدة درويش تجمع حولها كبار العائلة وصغارها، وتروح تسرد عليهم الحكايات. ما هي إلا دقائق معدودة حتى ينسحب جوّ من الطمأنينة على الجميع. حيلة الأم الحكواتية، انطلت على المستمعين، فلم يبقَ من أصوات القصف سوى الحكايات. يقول درويش إن هذه اللحظات جعلته يكتشف تأثير الحكاية وأهميتها إلى جانب كونها وسيلة للتسلية. عاد واختبر ذلك بنفسه، عندما عمل مع السجناء والمرضى في المستشفيات ومع الأطفال المصابين بالتوحّد.
حكايات درويش ليست للصغار. معظم الحكايات الشعبيّة برأيه هي للبالغين، بما تحتويه من رموز وإحالات اجتماعيّة وتاريخيّة. لكن الأهم بالنسبة إليه هو ما ستفعله بنا الحكاية بعد فترة من سماعنا إياها. هي كأي أدب شفهي تعود بالإنسان إلى بدائيته. الحكاية بطبيعتها لا تتوجه إلى العقل، بل تصيب مصدرَي العشق: القلب والأحشاء. تعشقها بداية من دون أن تعرف السبب ومن دون التوغّل في تفاصيلها. ثم يبدأ فعلها التثقيفي، فتترسّخ شيئاً فشيئاً في نفس المستمع، وتصعد بعدها إلى لاوعيه وتفاجئه بالعبرة يوم يحتاجها.
الحكواتي أيضاً يختار قصصه بقلبه. هو لا يعرف لماذا اختار أن يروي هذه الحكاية ويهمل تلك. جمع الحكايات بالنسبة إليه عمليّة حسّية أكثر منها منطقيّة، تجده يشتمّ ما يعجبه من جولاته في مهرجانات الحكايات حول العالم. جهاد درويش اليوم مهتم بحكايات هنود أميركا الشماليّة، إلى جانب مخزونه القديم من الحكايات الجنوبيّة التي كان يجمعها بنفسه أو تسجلها له أمّه على أشرطة وترسلها له إلى مهجره في فرنسا، إضافة إلى الحكايات الفلسطينيّة. يؤلّف بعضها من خلال شهادات عايشها، تفوح منها رائحة التبغ والجلد الطالعة من دكّان الإسكافي في الحيّ الذي كان يسكنه صغيراً. كما تسمع في شهاداته طنين الطيارات الحربيّة وأصوات الجارات يتحدّثن من مبنى إلى آخر، وفيها صور جهاد كشّاش

الطفل الذي تغذّت مخيّلته بقصص الوالدة، يدير حالياً عدداً من مهرجانات الحكاية حول العالم، من فرنسا إلى أفريقيا وجزر المحيط الهندي

افتتح أول «مركز لتوثيق الحكاية الشعبيّة» في لبنان، محقّقاً حلماً يراوده منذ 15 سنة
الحمام مراقباً النسوة اللواتي ينشرن الغسيل من على سطح المنزل في صيدا، حيث انتقل مع عائلته في عام 1960.
ربما لا يكون في هذه الحكاية مكان للحزن... لكنّ هناك متّسعاً للتيه. منذ تخرّجه من الثانويّة في صيدا والتحاقه بالجامعة في فرنسا، والشاب الذي يخجل بحبّه للحكايات لا يعرف ماذا يفعل. تميّزه في المواد العلميّة فتح له أبواباً كثيرة دخلها بحكم الواجب. درس الرياضيات ثم المعلوماتيّة، لكنه حصل على أوّل عمل له عام 1974 في إذاعة «مونت كارلو» كصحافي. درّس اللغة العربية، في كلية الآداب وكلية العلوم السياسية في مدينة إيكس ـــــ آن ـــــ بروفانس (جنوب فرنسا)، وبقي يتنقّل بين لبنان وفرنسا، رغم اندلاع الحرب الأهليّة... حتى جاءته تلك الدعوة. كان ذلك في فرنسا في ربيع عام 1983، حين دعته صديقته، المعالجة النفسيّة، إلى حديقتها حيث جمعت حشداً من الأصدقاء. هناك، طلبت منه أن يتقدّم ليحكي حكاية. الجمهور حاضر، جاهز للاستماع، والجوّ ملائم للكلام. أصبح الحكواتي ملزماً بتلبية الطلب، «أصول المهنة» يقول درويش. تقدّم وحكى الحكاية التي حررته. هل كانت السهرة حيلة «ملفّقة»، استعملتها صديقة درويش لتساعد صديقها التائه، أم كانت مصادفة أخرى؟ لا يزال درويش لا يجرؤ على السؤال... فليس لكل حكاية جواب. بعد تلك الدعوة المسحورة، انطلق في مهنته كحكواتي، وصار يروي قصصه على المسرح بقدمين حافيتين وشال أحمر يلفّ عنقه. عندما التقيناه، كان الشال الأحمر لا يزال هناك، لكنّه انتعل حذاءه استعداداً لزيارة الهرمل حيث افتتح أول «مركز لتوثيق الحكاية الشعبيّة» في لبنان ضمن مشروع لـ«مدرسة الحكايات» و«منتدى التراث والثقافة في الهرمل»، محققاً بذلك حلماً يراوده منذ 15 سنة. درويش الذي يبتعد عن تنظيم المهرجانات المختصّة بفن الحكواتي، تسلّم الإدارة الفنيّة لـ«المهرجان الدولي للحكاية الشفهية والمونودراما» في بيروت الذي ينظّمه «مسرح مونو» منذ عام 2000، وينطلق بدورته العاشرة في 16 آذار (مارس) الجاري. يتولّى درويش أيضاً الإدارة الفنية لمهرجانات الحكاية في مدينة نيس الفرنسيّة، وسان دوني في جزيرة لا ريونيون الفرنسيّة (قبالة مدغشقر في المحيط الهندي)، وفي جيبوتي. يقول درويش «في كلّ حكاية، عدد من الحِكَم»، فما رصيد من يملك كل هذه الدرر؟ هو على الأرجح العاقل بقلب طفل.


5 تواريخ


1951
الولادة في المروانيّة (جنوب لبنان)

1974
عمل صحافيّاً في إذاعة
«مونتي كارلو»

1983
قدّم أوّل أداء له كحكواتي
في سهرة خاصّة، وانطلق بعدها في مهنته على مسارح فرنسا والعالم

2000
تولّى الإدارة الفنيّة لـ«المهرجان الدولي للحكاية الشفهية والمونودراما» الذي تنطلق دورته العاشرة في 16 آذار (مارس) الجاري، ويستمرّ حتّى 21 منه في «قبو كنيسة القديس يوسف» (مونو ـــــ بيروت)

2010
افتتح أخيراً «مركز توثيق الحكاية الشعبيّة» في الهرمل (البقاع اللبناني)