ضحى شمسكان المشهد مرعباً. ففي المكان الذي أقف فيه عادة لاستقلال سرفيس، على تقاطع الصنائع الحمرا، كانت الإشارة الضوئية «ممددة» بالكامل على الرصيف، متحولة لمجرد عمود حديدي ملتو عند قاعدته ومسوى تماماً بالأرض، فيما تناثرت حوله قطع زجاج لمباته الثلاث المحطمة. كانت «جثة الإشارة» ممددة هنا من ليل أمس، إثر حادث حصل على الأرجح خلال الليل. لأنني أذكر جيداً أنه لدى مروري عشية أمس، كانت الإشارة واقفة. بدا واضحاً أن سيارة ما كانت آتية من الجهة المقابلة بسرعة كبيرة لدرجة أنه عندما حاول السائق لف الكوع، لف معه الإشارة شخصياًَ. المرعب بالموضوع، أن العديد من الركاب يقفون في هذه النقطة بالذات كل النهار وجزءاً كبيراً من الليل لاستقلال سرفيس أو فان. أي إنهم لو كانوا يقفون خلال حصول الحادث، لما اقتصرت الأضرار على الإشارة الضوئية. ومع ذلك، فليس هذا موضوعنا. موضوعنا هو أن ما أرويه حصل يوم الأحد ما قبل الماضي. ولكن، يستطيع أي كان، أن يمر بالمكان حتى اليوم، ليجد أن الإشارة المرورية لا تزال، بعد عشرة أيام، حيث هي، جثة هامدة، لا تزعج أحداً، برغم اعتراضها الرصيف، ولا أحد يزعجها. يلتف المارة حولها ليكملوا سيرهم أو يقفزوا فوقها. تكاد الإشارة ترفع يافطة تقول إنها «باقية على العهد» هناك، حيث سقطت أرضاً، لا تزعج بلدية، أو قوى أمن أو شرطة بيروت أو شرطة بلدية. الإشارة باقية كالكثير من الأشياء التي تفسد أو تتحطم أو تتعطل أو حتى تتسخ في الفسحة العامة، دون أن يحركها أحد أو يصلحها. لمَ لا يقوم أحد بإصلاح الإشارة أو لمّها من هناك؟ لا أعلم. لا بل أظن أن الحياة في تلك البقعة ستتكيف مع وجود جثة الإشارة. هكذا نحن، عندما يقع عطل، لا يسوّى، كل ما يحصل هو تحوير مسار الأمور تحويراً طفيفاً لتتأقلم مع «الوضع الجديد». تماماً كما يحصل لسطر النمل. ضع له حاجزاً، فيلتف حوله ويتابع حياته. لكن، إن كان للنمل مهمة برمجته الطبيعة من أجلها، فما هي مهمتنا؟ هذا سؤال يفتح على مشكلة كبرى يعانيها اللبنانيون: إهمال الصيانة. لو كانت الأشياء المعطلة تتحلل كالجثث، لكانت رائحة شوارعنا وبيوتنا تزكم الأنوف.
الموضوع لا يتعلق بالفسحة العامة فقط. اللبنانيون لا يحبّون الصيانة. وإذا تعطل شيء في بيوتهم أو في سياراتهم، فإن كل ما يقومون به فعلياً هو «الحد الأدنى من التصليح». «تسكيج بتسكيج». بعض سيارات السرفيس تكاد تهر لولا تلك الأسلاك التي ربط بها باب أو ذاك الإزميل الذي «زُيّر» ليبقى زجاج الشباك مقفلاً. ومع أن اللبنانيين لم يعتادوا بعد حزام الأمان، إلا أنك تكاد لا تعثر على حزام واحد سليم في السيارات العمومية. ما إن تهم بالركوب، حتى تعلق قدمك بالحزام «المدندل» لأن البكرة منزوعة! والأخطر حين تعلق قدمك حين تهم بالخروج! الثقوب في أرضية بعض الباصات واسعة لدرجة أنك ترى الزفت يجري في اتجاه معاكس حين تنظر إلى الأسفل. وحين يتوسع الثقب؟ تسده يد ما بقطعة كرتون. أصدقاء لي لديهم هاتف مزوّد بإشارة ضوئية حمراء للإشارة إلى أن هناك رسائل مسجلة. لكن الزر، ومنذ تعرفت إلى الجماعة (حوالى عشر سنين)، يضيء وينطفئ باستمرار في صالونهم. ما من رسائل، لكن أحداً لم يصلح العطل. وهو يغمز حتى اليوم بدون توقف بعينه الحمراء طوال وقت الزيارة.
اللبنانيون مجرد مستهلكين، من أسوأ أنواع المستهلكين. لا فكرة لدينا حتى عن صيانة ما نشتريه، حتى لو كانت الصيانة تطيل عمر السلعة. نفضل شراء الجديد. «فرد مرة».
أما باصات الدولة؟ فيبدو أنها تترك حتى تهر من الاستعمال. لهذا ربما لا نعثر على أي باص منذ فترة طويلة. أذكر سلة زبالة بلاستيكية كانت مربوطة إلى أحد أعمدة الرصيف بمنطقة رأس النبع. السلة، التي كانت قد احترقت لسبب ما، بقيت ذائبة ومربوطة في مكانها نفسه من عام 2006 حتى انتقالي من المنطقة بعد سنتين. بلاط الرصيف تكسر؟ يبقى هكذا، توسع أرجل المارة من رقعة عريه، دون أن يستبدله أحد ببلاط مماثل، بعد شهور أو حتى سنوات، تفاجأ بأن أحداً ما سكب فوق الفسحة العارية بعض الإسمنت، باجتهاد شخصي. مع أن للرصيف في الفسحة العامة مواصفات محددة لا تنفع معها «المبادرة الفردية». كأن لا ميزانية لصيانة الأماكن العامة. كان لا رؤية لهندسة الأماكن العامة. كأننا مستأجرون عابرون للبنان، ولسنا أصحاب ملك. إهمال الصيانة عندنا «ثقافة عامة» إن حق لنا أن نعد الجهل «ثقافة». ثقافة نحملها معنا إلى الشأن العام، إلى السياسة والثقافة والعلاقات الشخصية. تعلم اللبنانيون أن يكيفوا أنفسهم مع كل «عطل». عادي، وإلا كيف يمكن أن نكمل حياتنا المواطنية مع أعطال من نوع الطائفية والفساد والمحاصصة أو انعدام الرقابة؟ ببساطة نقفز فوقها، تماماً كما يحصل مع الإشارة الحمراء الملقاة على الارض، ونكمل حياتنا، طبعاً «باللي بقيوا».