إنه آذار أحزان الأكراد وأفراحهم. تقول الأسطورة إنه في ٢١ آذار يزيح الشهر الأسود (رش مه) ويقطع سواده بتخليص الشمس (مهر) من قبضة (إهريمان) لتسطع معلنة «اليوم الجديد» للذين تجمّعوا بالمئات قرب صخرة الروشة، أمس، في تقليد سنوي لإحياء عيد النوروز
بسام القنطار
كل شيء يوحي بالفرح. هكذا بدت صخرة الروشة ومحيطها المعروف بمنطقة «الدالية»، التي جمعت الأكراد بمختلف انتماءاتهم للاحتفال بعيد «النوروز»، أمس، بدعوة من الجمعية الكردية اللبنانية الخيرية. صور رئيس إقليم كردستان في العراق، مسعود البرزاني، والأعلام الكردية وزّعت على المشتركين. وحضر أنصار الحزب العمالي الكردستاني رافعين أعلام «الحزب» وصور الزعيم الكردي عبد الله أوجلان المعتقل في السجون التركية. وعلى عكس المناسبات السابقة، لم تحضر صورة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فقط صورة صغيرة للرئيس ميشال سليمان وضعت على المسرح. لكن غياب صورة الحريري لا يعني أن معظم أكراد لبنان لا يؤيدون تيار المستقبل، فالهتاف الذي حظي به الرئيس سعد الحريري، كان أعلى بكثير من الهتاف الذي حظي به الرئيسان ميشال سليمان ونبيه بري، عندما حياهم عريف الحفل بعربية متعثّرة إلى جانب التحية إلى القوى الأمنية التي تسهر على حفظ النظام وتسهيل وصول المشاركين.
كثر من الذين حضروا الحفل لا يتكلمون العربية. وإلى جانب الأكراد اللبنانيين حضر أكراد سوريون وعراقيون وأتراك ممن لجأوا إلى لبنان في انتظار تأشيرة دخول إحدى الدول الأوروبيّة.
الطقس المشمس سمح لهؤلاء بأن يفترشوا الأرض وأن يستمتعوا بالأغاني التي أدتها الفرقة الموسيقية «خلات»، التي نشأت في منطقة القامشلي في سوريا. وللقامشلي وقع خاص على قلوب المشاركين، التي حياها عريف الحفل أكثر من مرة، متذكراً شهداءها الكثر الذين «ثاروا للعدل والحرية»، كما يقول.
ولأن العيد للفرح، نسي الأكراد أحزانهم. لبس الأطفال والصبايا ثياباً جديدة، وانتظم الشبان في حلقات من الدبكة، وجلست العائلات بالقرب من «مناقل الفحم» والأراكيل. كذلك حضرت الجعة من «العيار الثقيل». أما الرؤوس فزينت بعصبة تحمل ألوان علم كردستان المؤلف من الأحمر والأخضر والأبيض، التي ترمز إلى ألوان عيد النوروز الذي يصادف في ٢١ آذار، أول أيام فصل الربيع. ويحتفل الأكراد في هذا اليوم بالعيد الذي يعدّونه رأس السنة الجديدة وفق التقويم الكردي لعام 2710. «21 آذار يعني انبثاق الحضارة وتفجّرها، آذار مزوبوتاميا، آذار الكورد وكوردستان، إنه انتصار الخير على الشر»، يقول كردي آتٍ من تركيا إلى لبنان. يرفض الرجل الأربعيني ذكر اسمه، لكن يؤكد أن لبنان محطة مؤقته بالنسبة إليه، في رحلة الحصول على تأشيرة دخول السويد، حيث تنتظره عائلته التي سبقته إلى هناك.
حلقات الدبكة الكردية، التي يطلق عليها بالكردية «باغيه هرور»، هي فولكلور قديم جداً، حيث يجتمع الناس في حلقة واحدة»، بحسب إيفلين التي كانت تترأس حلقة الدبكة. اسم إيفلين يعني القمر بالعربية، والعيد بالنسبة إليها هو مناسبة للفرح. والتقليد أن ترتدي الفتاة أجمل ما عندها، وأن تتبرج وتلبس الحلي، ومن تجد رفيق عمرها في هذا اليوم تعش حياة زوجية سعيدة»، بحسب إيفلين. بعيداً عن حلقات الدبكة، جلست امرأة سبعينية اسمها غزال. لا تتكلم العربية، رغم انتقالها المبكر من تركيا إلى سوريا بعد الزواج. تعمل غزال على تحضير الأطعمة، وهي مكوّنة من أكلات شعبية كردية كالدولمة والبرياني، إلى جانب اللحم المشوي طبعاً.
تقول غزال إنها حضرت مع عائلتها المكونة من ٧ أفراد، ولن تعود إلى مكان إقامتها في البسطة التحتا إلا بعد حلول الظلام. سنّها الذهبية والوشم على رأسها وزيها التقليدي لا نجده حاضراً في ثياب حفيدتها أوي (١٢ سنة)، فبين غزال وأوي سنوات من الاندماج المدني يهدد الهوية الثقافية والاجتماعية للأكراد.
أمين صندوق الجمعية الكردية اللبنانية الخيرية، محمد إبراهيم، يقول لـ«الأخبار» إن الجمعية تعمل على توفير فرص عمل للشباب للحدّ من الهجرة وإعطاء منح دراسية للشباب. وقد فتحتت أخيراً صفاً دراسياً خاصاً لتعليم اللغة الكردية، بعدما تبين أن نحو ٤٠ في المئة من أكراد لبنان نسُوا لغتهم الأم.
يشير إبراهيم إلى أن لبنان يستضيف عشرات الآلاف من الأكراد، بينهم نحو ٨٠ ألف لبناني. أما الباقون فهم من دول الجوار. ولا ينسى أن يشير إلى أن المغتربين الأكراد من أصل لبناني يزيدون على ١٥٠ ألفاً، هم موزعون في مختلف بقاع الأرض. ورغم اعتداد الأكراد بالكثير من العائلات اللبنانية من أصل كردي، فإن هؤلاء اندمجوا بالكامل في البيئة اللبنانية. أما الجالية الحالية التي لا تزال تحافظ على قوميتها، فقد هاجر أبناؤها إلى لبنان من منطقة ماردين وطور عابدين وبوطان في كردستان تركيا بسبب ضيق سبل العيش في مواطنهم الأصلية، وخوفاً من الاضطهاد التركي، وبعد فشل الثورات الكردية هناك، ولا سيما ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925، وما نتج منها من تهجير جماعي للأكراد في منطقة ديار بكر.
يلفت إبراهيم إلى أن الجمعية التي تأسست عام ١٩٦٧ مستقلة ولا تقبل مساعدات سياسية من أي جهة، لذلك لم تستطع أن تكمل العمل في مستوصف أقامته في منطقة البسطة.
مطالب أكراد لبنان جردها عادل (٢٧ عاماً)، قائلاً: «نحن لا نطلب المستحيل، بل بمساواتنا مع الجميع. ونطالب بحقوقنا، ومنها التمثيل النيابي بمنحنا مقعداً نيابياً في قانون الانتخاب يضمن لنا التمثيل العادل. ونطالب أيضاً بمقعد وزاري، فكيف يتحدثون عن حكومة وحدة وطنية والأكراد خارجها؟»، يسأل عادل.
الهم الأكبر بالنسبة إلى الشاب المجنس عام ١٩٩٤ هو حل المشاكل

على عكس المناسبات السابقة، لم تحضر صورة الرئيس الشهيد رفيق الحريري
المتعلقة بمرسوم التجنيس رقم 5247 الذي صدر بتاريخ 20/6/1994، إضافة إلى استئناف عمل القضاء لبتّ قضايا لمّ الشمل العائلي وتصحيح القيود المتعلقة بمكان الولادة وتاريخها. ولا يخفي عادل حرقته من عدم تكريس عيد النوروز عطلة رسمية: «نحن جزء من الشعب اللبناني، ويحق لنا الاحتفال بعيدنا القومي».
حسن (٢٩ عاماً) رسم على وجهه العلم الكردي، أما قميصه فيحمل صورة للمناضل الكردي عبد الله أوجلان. بالنسبة إلى حسن، فإن أوجلان مظلوم، وهو رمز قومي وحامل قضية. يقولون عنه إرهابي، لكنه مقاوم من أجل أرضه وشعبه». يهز حسن برأسه لدى مشاهدته شاباً يرقص حاملاً صورة مسعود البرزاني. هو يرى أن البرزاني يتحمل مسؤولية هذا الاستهتار بواقع المواطن الكردي اللبناني الذي تفاءل بقيام إقليم كردي فدرالي شبه مستقل. «نحن نريد إقليماً ثائراً يحكم بعقلية المغفور له الملّا مصطفى البرزاني، الذي كان يسعى إلى وحدة الأكراد في كل مكان. لكننا اليوم بعيدون جداً عن هذا الحلم. أين البرزاني من نضال شعبنا الكردستاني في أجزائه الأربعة ضد الظلم والاحتلال (يقصد إيران وسوريا وتركيا والعراق)؟ شعبنا مقهور في كل مكان. نحن لا نسيء إلى أحد. نتجنب حتى إشعال النيران في الأماكن العامة في العيد، رغم أن الأمر يعني الكثير لنا، ونكتفي بإشعال الشموع عوضاً عن تلك النيران، ورغم ذلك لا يكفّون عن ملاحقتنا وسجننا».


عندما انتصر الحدّاد على الظالم

رغم العديد من الفتاوى التي تحرم الاحتفال بعيد النوروز، فإن الأكراد المسلمون السُّنة يحتفلون به. ويعتقد الأكراد أنه في آذار انتصر كاوه الحدّاد على الملك أزدهاك الذي لعن بسبب شرِّه. لذا، كل يوم يقتل اثنان من الأطفال وتقدم أدمغتهم إلى الأفاعي. وبدلاً من أن يضحي الحداد بطفله، ضحّى بخروف. وعندما سمع الآخرون عن خدعة الحدّاد عمِلوا مثله، وأرسلوا أطفالهم إلى الجبال، حيث نظم كاوه جيشاً. وعندما أصبحت أعدادهم كبيرة، نَزلوا من الجبال واقتحموا القلعة. ووجه كاوه الضربة القاتلة إلى الملك. ولإيصال الخبر بنى مشعلاً كبيراً أضاء السماء. ذلك الصباح بدأت الشمس بالشروق ثانية والأراضي بدأت بالنمو. ويعتقد الاكراد أن هذه هي البداية «ليوم جديد»، أو نوروز.