يروي الفيلم اللبناني «السلاح في أياد ناعمة» قصة مقاتلات شاركن في الحرب الأهلية. لسن من الماضي، فاليوم أيضاً، في خبايا المدينة، ثمة شابات يجاهرن برغبتهن بإطلاق النار، وأخريات حققنها
جنين سليمان
صحيح أن الحرب الأهلية انتهت ــــ بشكلها المعلن على الأقل ــــ منذ أكثر من عقدين، غير أن خبر «إطلاق النار» لا يزال مألوفاً بين اللبنانيين، والشباب خصوصاً. فالشباب هم الذين يطلقون النار بعد الأعراس، وهم الذين يهللون لزعيم هنا، ويبتهجون لزعيم هناك، محرّرين بذلك السلاح من علّة وجوده. المظاهر المسلحة، إذاً، لم تعد عنيفة أو مخيفة، كما يُفترض أن تكون. تجرّدت من ذكورية مفترضة لطالما احتكرتها. وهكذا ربما، انتقلت عدوى اللهو بالسلاح إلى الجنس اللطيف. جزء كبير منهن مقتنع بما يقتنع به الشبان، أي الحجج التقليدية: السلاح مصدر قوة. أن تكون مسلحاً يعني أن يخشاك الآخرون. السلاح ضرورة لأن الحرب يمكن أن تندلع في أي لحظة. هنّ أيضاً، لا يخفين شغفهنّ بهذه القطع المعدنية... القاتلة. رغبةً بالقتل، أو باقتناء السلاح خوفاً من مجهول ما، بل لأسباب أخرى، قد تكون طريفة في بعض الأحيان.
ماريانا تحب آلات الموت بكل بساطة. السلاح يشعرها بالسلطة، كأنه مصدر طاقة خفية. ورغم أن طالبة الدكتوراه في التاريخ، لم تطلق النار في حياتها، إلا أنها تصر على تلك الأحاسيس. تؤمن بأهمية الرصاص وقدرته على إخافة الآخرين. في حالتها، يصبح السلاح بحثاً عن طابع تغلب عليه الذكورية، في مجتمع ينتقص المرأة في كل شيء. فهي، وفي معرض شرحها، لا يفتها أن تذكر: السلاح للنساء أيضاً. لا توافقها ميساء الرأي. فالأخيرة، وإن كانت قد جرّبت ما اعتبرته متعة في إحدى رحلات الصيد، تؤكد أن السلاح «لا يليق بالأنثى». انطباع ميساء أولي، فالرصاص الذي أطلقته من «جفت» الصيد، أحدث ارتياحاً هائلاً في صدرها. تعتبره «فشة خلق». ولكن، لا تلبث الفتاة العشرينية أن تعترف بأنها لا تقصد إيذاء العصافير. السلاح هنا يصبح أداة تنفيس، قد لا تحمد عقباها. ففي رحلتين خرجت فيهما مع العائلة والأصدقاء لـ«تفش خلقها»، واجهت حادثتين مؤلمتين. في الحالة الأولى كان الألم جسدياً. اقتصر الأمر على أوجاع في كتفها الأيمن، بعدما صُدمت بقوة ضغط «الخرطوش». لم تنفع التحذيرات التي تلقتها. كانت متحمسة جداً. تضحك هنا، وتشير إلى أنها كادت تقع على ظهرها، لولا أنها تماسكت سريعاً. الحالة الثانية في المشوار الثاني، والأخير حتى الآن، منذ عامين، كانت أخطر بقليل. ففي المكان نفسه، أي أحد السهول القروية بقاعاً، زلّت قدم ميساء... وانطلق عيار ناري. لم يكن قريباً من أحد، ولم تحدث دراما، لكن ميساء شعرت بذعر حقيقي. ولكنّ هذا الذعر لم يكبح رغبتها بإطلاق النار «على شيء ما يتحرك»، كما تقول ساخرة.
تقف سارة على الجهة المقابلة تماماً من ميساء. تضع على برنامج الرسائل القصيرة MSN صورة لها... مسلحة بمسدس حربي في يدها، وبابتسامة على شفتيها. وإلى السلاح، هناك القبعة التي تقي رأسها من الصوت. سارة محترفة في الرماية. تتدرب في نادٍ متخصص، في منطقة الحدث، شرق بيروت. تأسس النادي المذكور عام 1995، أي بعد انتهاء الحرب الأهلية بسنوات قليلة، إذ ظلّ تعلّق الناس بالرماية والرصاص موجوداً بحكم الممارسات الحربية اليومية. سرعان ما تحوّلت الرماية إلى وسائل ترفيه حديثة في الحدث. فالنادي، رغم احترافيته، كان في بدايته متنفساً، أو ملجأً، أكثر منه مدرسة رياضية. وأصبح كذلك لاحقاً، فيمكن أن يحضر «رماة صغار» ابتداءً من عمر 10 سنوات، شرط أن يرافقهم أهلهم. الإناث الشابات حاضرات بقوة بدورهن. كل من لديه هوس بالأسلحة وخصوصاً المسدسات، يمكن أن يتعلم هناك. وللمناسبة، يرى مدربون في النادي أن الرماية لا تقل شأناً عن الرياضات الأخرى، لما تطلبه من تركيز ذهني، ودقة في تثبيت اليدين ورشاقة في الأصابع، إضافة إلى توازن في حركة الجسد لإصابة الهدف. وفي إطار

تفضّل حنين صوت الرصاص على زراعة الورود ونزهة الكورنيش

إعادة الاعتبار إلى الرماية كرياضة، أكثر من كونها هوساً ميليشيوياً، افتتح الجيش اللبناني في كانون الأول من العام الفائت نادي الجيش اللبناني للرماية، في مجمع الرئيس العماد إميل لحود الرياضي العسكري. وجُهّز بأحدث التقنيات والوسائل التي توفّر الراحة للرماة. المركز مؤلف من قاعة للرماية مقسّمة إلى عشرة خطوط رمي، تُبرمَج بواسطة الحاسب الآلي، ويبلغ طولها خمسة وعشرين متراً وصولاً إلى المقذفة المصنّعة من الحديد المصفّح. وتحاذي هذه القاعة غرفة مراقبة مخصّصة للتحكّم بخطوط الرمي كلها بواسطة نظام تحكّم متطور يسمح بتشغيل الأهداف عن بُعد وباختيار برامج للرمي، بالإضافة إلى نظام تحكّم وضعي خاص بكل غرفة رمي، يستطيع الرامي عبرها تشغيل الهدف بنفسه، كما يستطيع المراقب عبر نظام الهاتف الهوائي الموجود في غرفة المراقبة أن يتواصل مع الرماة ويوجّه إليهم تعليماته. وقد بلغت تكلفة النادي نحو مليون دولار أميركي، عدا التوجيهات الدقيقة من المختصين في المركز للمشاركين.
تعليمات المدرّبين لا تعني حنين شيئاً. ذات مرة، أطلقت الشابة النار من النافذة، بواسطة مسدس «16» يخص قريباً لها، بغرض التجربة «على طريقة الزعران»، ومن دون علم صاحب المسدس. لم تحب فكرة إطلاق النار كثيراً. إلا أن صوت الرصاص الآن يُشعرها بنوع خاص من السعادة، ربما لم تجده في زراعة الورود، أو في التنزه على الكورنيش.


ذاكرة المقاتلات

يحاول المخرج بلال خريس، في فيلمه «السلاح في أيد ناعمة» الذي عرض على قناة الجزيرة منذ فترة وجيزة الإضاءة على تجربة مقاتلات لبنانيات، انخرطن في العمل العسكري في شبابهن، وانتمين إلى الأحزاب: الكتائب، القوات، الشيوعي، السوري القومي، وحتى حزب الله. معظمهن أصبحن اليوم أمهات، ولا يزال السلاح خلف ظهورهن. لا يشبهن شابات اليوم اللواتي يعتبر معظمهن أن السلاح «موضة».