منهال الأمينكأنه أمامي. نتزاحم في ذلك الدكان، على أشباه المقاعد. في ليلة شتوية، جاد بها آذار، فهو، كما يسمونه في القرى، غدارٌ. مازح مهند* الجميع كعادته. طالت السهرة حتى منتصف الليل. لم يودعنا وداعًا مميزًا، مع علمه بأنه، مع خيوط الفجر الأولى، سيكون قد اتخذ موقعًا قتاليًا، في المكان المحدد له في مجموعة الإسناد، يحمل مدفعًا مباشرًا، من طراز B10 ، ويسدد: فرضة ــــ شعيرة ــــ هدف، منتظرًا ساعة الصفر للبدء بالهجوم على موقع طلوسة اللحدي. لم تكن مرّته الأولى، ولكنها كانت الأخيرة. يومها علمنا أنه كان يذهب من بيننا، إلى معركة مع العدو أو عملائه، من دون أي إشارة أو تلميح. شهادته كشفت لنا سره.
لا طقوس لهذا العمل. بل «استراتيجيا» العمل بصمت، والعمل كثيرًا من دون ثرثرة ولا تنظير. لم يحتج مهند إلى كثير بحث. قرر أن يصبح مقاومًا. كيف؟ قد يملك البعض جوابًا عن المراحل الفكرية والنفسية والعملية التي مر بها، مثله مثل مئات من شباب عشرينيين التحقوا بالمقاومة، في أيام عزها، أوائل التسعينيات، في الفترة التي شهدت تطورًا في العمل المقاوم، أدى إلى التحرير في عام 2000.

شهادته كشفت لنا سره الذي حفطته «استراتيجيا» العمل بصمت
سبق مهند إلى هذا العمل، ابن خالته شادي الزين. حين استشهد قال لرفاقه: لن يسبقني إليه أحد. ثم اشترى سيارته كأنه يحاول تلمّس الطريق التي خطها، وبالفعل، لم تمر أشهر معدودة، إلا وكان مهند في إثر شادي. مهند، إلى أين؟ لم يحر جوابًا، وإن لم يتكلم. «إلى النوم»، كأني سمعته يقول. كأنه تمتم أيضًا: «أتمنى ألا أراكم غدًا، رايح عالجنة. الجنة لو كانت تقتصر على تلك الحفرة في التراب، فإنها أهنأ من هذا الفضاء الرحب المترع بكل هذا القرف».
* مهند علي فوعاني، من بلدة شقرا الجنوبية، استشهد خلال هجوم على موقع طلوسة اللحدي يوم الأحد 27 آذار 1994، وهو الموقع الذي أخلاه العملاء بعد أسابيع قليلة، جراء الهجمات المركزة للمقاومة عليه، وشارك مهند في أغلبها.