هو أحد الذين عايشوا الحرب الأهلية وكانوا في سدّة المسؤولية، كان رئيساً لمجلس شورى الدولة، حيث اتخذ قراراً غيّر مجرى حياته إلى الأبد. «يعشق» الدستور ويحفظ مواد القانون عن ظهر قلب، بعد 50 عاماً على تعيينه قاضياً. هو ليس «حيادياً» ولم يكن كذلك يوماً... بل «عوني» حتى ينقطع النفس

أعدها: محمد نزال
القضاة ثلاثة... اثنان منهم في النار وواحد في الجنة. قاضٍ حكم بغير الحق عن معرفة، فهو في النار، وقاضٍ حكم بغير الحق عن جهل، فهو في النار، وقاضٍ عرف الحق فحكم به، فهو في الجنة. قولٌ يحلو للقاضي يوسف سعد الله الخوري أن يردّده باستمرار، وبلغة عربية فصحى تنبّه السامع إلى أمر يجدر تدوينه.
خمسون عاماً مرّت على تعيينه في أول منصب قضائي له: قاضٍ في ديوان المحاسبة. تقاسيم وجهه توحي للناظر بأن للتاريخ وجوهاً، وبأن ملامح أجيال قد طُبعت على وجهه الثمانيني. عندما يُردَّد اسم يوسف سعد الله الخوري، يتبادر إلى ذهن عارفيه تلقائياً «مجلس شورى الدولة»، بعدما أصبح اسمه مرتبطاً بهذا المجلس الذي شغل رئاسته مدّة 8 سنوات، كانت من أصعب السنوات التي مرّت على لبنان أيام الحرب الأهلية.
لا يأخذ وقتاً للتفكير، عند سؤاله عن أهم محطات حياته، فيجيب مباشرةً «إنه عام 1988». وقف حينها حائراً، فهو كرئيس لمجلس شورى الدولة عليه أن يتعامل مع الحكومة، ولكن أيّ حكومة يختار ولبنان وقتذاك تحكمه حكومتان؟ حكومة سليم الحص الحاكمة في المنطقة «الغربية»؟ أم حكومة ميشال عون الحاكمة في «الشرقية»؟. لم تدم حيرته طويلاً، حسم «مستشار الدولة» خياره ناحية قصر بعبدا، إلى حيث «كان يميل القانون... والقلب». لا يخفي الخوري «عونيته»، كيف ذلك «وأنا من مؤسسي التيار الوطني الحر، وأنا من تحدث باسم عون في لبنان بعد نفيه إلى فرنسا». بيد أنه يتخذ من الدستور منطلقاً لإثبات «شرعية» حكومة عون، لتبرير «دستورية» خياره. فالدستور، قبل «الطائف»، كان ينص بحسب المادة 53 منه على أن رئيس الجمهورية هو من يعيّن الوزراء ويسمّي منهم رئيساً للحكومة، ولذلك «فإن حكومة الحص لم تكن شرعية، مع كامل احترامي له، ولكن كان لا بد من التعامل مع حكومة عون، أحببته أو لم تحبّه، فقد عيّنه رئيس الجمهورية أمين الجميّل رئيساً للحكومة قبل 15 دقيقة من انتهاء ولايته».
انتهت الحرب وسكت المدفع، وجد الخوري نفسه وحيداً أمام الحكومة القائمة «التي لم تكن بالأمس شرعية»، بعدما أصبح ميشال عون في فرنسا، وبعد كثير من التطورات التي دخل معها لبنان في مرحلة جديدة. جاء وقت «تصفية الحسابات»، فوقعت معركة قضائية بينه وبين مسؤولي الدولة، كانت نهايتها «الإقصاء» من منصب رئاسة مجلس شورى الدولة. «العين لا تقاوم المخرز» يقول الخوري متحدثاً عن عجزه حيال قرار «الإقصاء»، الذي اتخذه مجلس الوزراء برئاسة إلياس الهراوي. لم يُعزل عن العمل القضائي نهائياً، بل أصبح قاضياً «بلا حقيبة». لم يقبل ذلك، قرر الاستقاله نهائياً من القضاء «تلافياً لمزيد من الصراعات والمماحكات، بعد مجابهة قاسية مع قضاة من الصف الأول، القضاة المسيّسين، وبالنتيجة كانت الغلبة للسياسة». وفي شهادة للتاريخ، يقول الخوري: «لم أتعرض لمضايقة من السوريين خلال تلك الحقبة، رغم كثرة إطلالاتي التلفزيونية التي كنت أمثّل فيها الجنرال في كل شاردة وواردة».
يُذكر القاضي الخوري على أنه صاحب الرأي في تقسيم الجامعة اللبنانية إلى فروع، بعدما كانت موحّدة في كل لبنان، وذلك بسبب «الظروف الاستثنائية» عام 1976 حيث حالت الحرب الأهلية دون تمكّن الأساتذة من الوصول إلى الجامعة، وكذلك الطلاب الذين كان يقدّر عددهم بنحو 25 ألف طالب، إذ كان «الذبح على الهوية منتشراً بين الطوائف». يقول الخوري: «قدّمت اجتهادي إلى وزير التربية كميل شمعون بتفريع الجامعة، وبإمكان إقرار ذلك خارج مجلس الوزراء لكونه عاجزاً عن الانعقاد، بغية تسيير المرفق الجامعي الذي كان معطلاً، وهذا ما حصل». انتهت الحرب الأهلية، لكنّ كثيراً من تبعاتها السلبية لم تنته. بقيت الجامعة مقسّمة إلى فروع «طائفية»، رغم انتفاء «الأسباب الاستثنائية» فقد أصبح الأمر واقعاً مكرساً.
ولد القاضي يوسف سعد الله الخوري عام 1934 في عين عكرين ـــــ الكورة. تلقّى دروسه الابتدائية في مدرسة «الإخوة المريميين» في البترون، ثم انتقل إلى مدينة طرابلس لدراسة المرحلة التكميلية في مدرسة «الفرير»، لينتقل بعدها لمتابعة دراسته الثانوية في معهد «الآباء الكرمليين» في طرابلس. قضى كل هذه المراحل الدراسية في نظام داخلي برفقة أخيه، بسبب إقامة الأهل في الجبل وصعوبة المواصلات. دخل كلية الحقوق الفرنسية (اليسوعية اليوم) التي لم يكن ثمة كلية للحقوق في لبنان سواها. أنهى المرحلة الأولى من دراسته الجامعية عام 1957 ثم حصل على شهادة «الليسانس». انتقل بعدها إلى العاصمة الفرنسية ليكمل دراسته، فنال

يهوى المشي والصيد البري، فهاتان الهوايتان هما «دينه الثاني بعد الله»

عند سؤاله عن أهم محطات حياته، يجيب مباشرةً «إنه عام 1988»
دكتوراه دولة في القانون العام من جامعة «paris ـــــ 5». عيّن في عهد الرئيس فؤاد شهاب عام 1959 مراقباً في ديوان المحاسبة، ثم قاضياً عام 1963، وانتُدب للعمل في عدّة وزارات، منها وزارة البريد والبرق والهاتف (الاتصالات حالياً). ترأس عام 1970 لجنة وضع أنظمة الجامعة اللبنانية الجديدة، وفي مطلع عام 1983 عُيّن مديراً عاماً للشؤون القانونية والإدارية في رئاسة الجمهورية لمدّة 6 أشهر، كان يحضر خلالها الخلوات التي تُعقد قبل جلسات مجلس الوزراء، بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة «شفيق الوزان... رحمة الله عليه ذاك الرجل الطيب جداً». وفي 4 تموز من العام نفسه، عُيّن رئيساً لمجلس شورى الدولة، فأصبح تلقائياً «بقوة القانون» رئيساً للهيئة القانونية العليا في الجامعة اللبنانية.
تزوج يوسف سعد الله الخوري سيدة طرابلسية من آل زبليط، فولدت له 3 أبناء، اثنان منهم أصبحا مهندسين والثالث درس المحاماة. يهوى المشي والصيد البري، فهاتان الهوايتان هما «دينه الثاني بعد الله». يحب الطبيعة وعيش القرية، وكذلك السفر السياحي في البر. يُصرّ على مناداته باسمه الثلاثي، بعدما «ربّته» تجربة احتجاز الجيش له عام 1961، نتيجة تشابه أسماء بينه وبين شخص ينتمي إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، وذلك إبان محاولة الانقلاب التي قام بها الحزب آنذاك. وإلى اليوم، ما زال يرفض أي وثيقة لا تحمل اسم يوسف سعد الله الخوري.


صدر للقاضي يوسف سعد الله الخوري العديد من المؤلفات، أهمها كتابه «القانون الإداري العام» في جزءين، صدرت طبعته الأولى عام 1994 والرابعة عام 2007. وله مؤلف بعنوان «القانون الإداري» من 8 أجزاء، هي: المرافق العامة وحقوق الإنسان، إدارة المرافق العامة، الملك العام والملك الخاص، الانتظام العام في الاجتهاد الإداري، الوظيفة العامة في التشريع والاجتهاد (3 أجزاء)، والقضاء الانتخابي.