الكريستال يخلف أغصان الزيتون وسعف النخيلريتا بولس شهوان
وجدت الطفلة نفسها منذ ساعات الفجر الأولى متأنقة فوق العادة، بثوبها البنفسجي، حاملة شمعة يزيد طولها على طول قامتها. والأهم من طول الشمعة، زينة هذه الأخيرة، التي من المفترض أن تكون ألوانها مطابقة للفستان الصغير، وللقبعة. تصبر الأم ابنتها بالقول إنها اليوم ستكون جميلة في الكنيسة بين أقرانها. تحاول ريبيكا، ابنة الأربعة أعوام الفهم. تسأل الجدة، وقد جلست إلى جانبها على المقعد الخشبي في الكنيسة، أن تخبرها عن «الشعنينة»، إلا أن الجدة تهمس في أذنها: «بعدين»، فالمكان والزمان غير ملائمين، والاحتفال الإلهي في كنيسة مار جرجس صربا سيبدأ بعد لحظات. تلقي الجدة نظرة استنكار إلى الشمعة. فمشكلة الجدة ليست فقط في طول الشمعة المبالغ به، بل بما هو أعمق من ذلك، وهو الاستغراق في الزينة الاستهلاكية التي بدأت تحرم فقراء المؤمنين فرحة العيد، ونسيان المهم. تنظر إلى الشموع المختلفة بين أيدي الأولاد: «إنها مدينة ملاهٍ» تقول. لكن وصفها ذاك ليس تشبيهاً. فقد أحاط نموذج فضي مصغر من لعبة الأحصنة التي تدور في مدينة الملاهي، بشمعة ريبيكا إضافة إلى شرائط المخمل الأحمر. كان «خوري الرعية»، الذي يتولى أمور الكنيسة قد بدا عظته بالطلب «من أمير السلام، أن يحلّ سلامه في القلوب، ويقرّب الناس بعضهم من بعض، وإن تنافسوا فمن أجل الخدمة، ومن أجل الوطن الواحد، لشعب واحد ومصير واحد، ونسأله السلام لأورشليم ولكل الشرق حيث يريد الله من أبنائه أن يحيوا أخوة، وأن يبنى هذا السلام على العدل وكرامة كل الناس والحقوق المستعادة لأصحابها، نصلي من أجل مستقبل أطفالنا، ليعيشوا في وطنهم لا في غربة، ويعود البعيدون، ويسلم القريبون، ويعمّ الفرح ويتم التلاقي ويسود الخير على الجميع». لم يكن مطلوباً من الطفلة أن تفهم شيئاً من كلام رجل الدين. كانت تلعب بالشمعة، ترفعها تارةً وتخفضها، ومن ثم تحرك الأحصنة بحركة دائرية كأنها تتخيل نفسها ممتطية أحدها. تنهرها والدتها. لكنها لا تجد ما تفعله سوى تأمل شمعة فتاة تجلس قربها، وهي في مثل عمرها. لم يعجبها ما رأت! مدينة ملاهٍ أيضاً، مثلها! إلا أن المخمل أزرق اللون. تلفت نظر والدتها وهي تكاد تبكي «ماما، ليكي هيدي البنت، عندا متل شمعتي!». هذا النهار لم يكن موفقاً لريبيكا، فهي لم تكن صاحبة الشمعة الأجمل، كما سبق ووعدتها والدتها، فهناك طفلة أخرى تشاركها «الفوز».
في البيت، ولتعزيتها، تروي الجدّة لها أن عيد الشعانين هو عيد الاحتفال بدخول السيد المسيح إلى القدس. يومها، دخل على ظهر حمار، متواضعاً، لكنّ الشعب أبى إلا أن يعلنه ملكاً، لا ككل الملوك، ملكاً دخل المدينة دون أي جيوش، سلاحه المحبة، وجيشه ملائكة الحب. أعلنه الناس ملكاً، وقدموا له ملابسهم ليضعها على ظهر حماره وحيّوه بأغصان الزيتون وسعف النخل. تقاطعها الصغيرة: «هل كانوا يحملون شموعاً كشمعتي؟»، تجيبها بأن الزينة أيامها كانت أغصان زيتون وسعف النخل، أما الشمعة «فنحملها رمزاً للنور، فالمسيح نور العالم». تشتكي الأم والجدة من أسعار الشموع وبهرجتها، فلا أحد يقاوم أن يكون ولده أجمل الاولاد.
لكن الإقبال ليس كما يتصوره الأهل. فالضائقة الاقتصادية قننت الزبائن، إلى درجة أن محلاً صغيراً في جونية أصبح محور حركة بيع الشموع، للقادرين بالطبع. تصمم كلارا، صاحبة المحل بنفسها الشموع، راضخة لمواصفات الأمهات. وتسترسل راوية كيف أقامت تلك «المرأة الأرض ولم تقعدها حين لم يعجبها مخمل شمعتها التي كلفت 40 دولاراً، لأنه يختلف جذرياً عن ملابس ابنتها». معظم تجار جونية أكدوا لـ«الأخبار» أن جونية تعيش أزمة كساد في إكسسوارات الشعنينة، علماً بأن الشمعة أصبحت مع الوقت رمزاً للعيد، فيما في السنوات الماضية كان مجرد عرض البضاعة أمام واجهة المحال تزييناً للشارع، من دون أن تتكلف البلدية شيئاً. حال كلارا، المصممة، مختلفة. فهي باعت أكثر من ألف شمعة، ولم يبقَ من تصاميمها سوى 25 شمعة. بدأ عملها قبل أسبوعين من عيد الشعنينة. إذ إن العديد من المغتربين يحملون معهم هذه الشموع لأطفالهم خارج لبنان. وهم، أي المغتربون، يختارون البضاعة الأغلى التي يفوق سعرها تسعين دولاراً، وتكون مصنوعة من الكريستال أو من مواد أخرى. أما وضع الأمهات اللبنانيات، اللواتي يتعاملن بالليرة لا بالدولار ولا باليورو، فمختلف وفق كلارا. فالأم «المحلية» تحاول دائماً التقشف قدر المستطاع، والفقير يأخذ شمعة بعشرة آلاف ليرة، أما متوسط الحال فلا يدفع أكثر من 25 ألف ليرة وفق إحدى الموظفات في المحل. الشمعة للمسيحيين في كسروان هي العيد. يحاولون اختيار الشمعة الأجمل، ولو كان ثمنها باهظاً، لا لشيء، بل لأن الأطفال ينتظرون العيد 346 يوماً من أجل «الشمعة»، لكن حتى هؤلاء لم يعودوا قادرين، وهذا على الأقل ما يبدو.